شرح الحديث العشرون من كتاب الأربعين النووية
السبيل أونلاين - شرح الحديث
تقديم : د.البشير عبد العالي
أولا نص الحديث :
عَنْ أبي مَسعودٍ البَدريِّ - رضي الله عنه - ، قال : قال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولى : إذا لَم تَستَحْيِ ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ ) رَواهُ البُخاريُّ.
ثانيا سند الحديث :
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حِراش، عن أبي مسعود، عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) (1)، ولم يخرجه مسلم ؛ وقد رواه قوم ، فقالوا: عن رِبعي، عن حذيفة، عن النَّبيِّ(صلى الله عليه وسلم)(2) فاختلف في إسناده، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأنَّ القولَ قولُ من قال:عن أبي مسعودمنهم: البخاري، وأبو زرعة الرازي(3) والدارقطني(4) وغيرهم، ويدلُّ على صحة ذلك أنَّه قد رُويَ من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه(5). وخرَّجه الطبراني من حديث أبي الطفيل ، عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم)أيضاً (6).
ثالثا متن الحديث :
يدور معنى الحديث حول الحياء، وكونه قيمة إيمانية موروثة عن مشكاة النبوة، وأنه الحاجز الحقيقي بين الإنسان وكثير من القبائح، وبهذا نفهم لماذا يصر أعداء الأنبياء ويلحون بشدة على نبذ الأخلاق عامة، وخلق الحياء بصورة خاصة، ويربطونه مطلقا بالتخلف.
رابعا فهم الحديث :
قولُه(صلى الله عليه وسلم): (إنَّ ممّا أدرك الناسُ من كلام النبوَّةِ الأولى ) يشيرُ إلى أنَّ هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرنٍ، كما تورثوا العديد من القيم والسلوك.
والاستحياء والحياء واحد وهو انقباض النفس من صدور فعل استشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عمّا من شأنه أن يُفعل(7) .
وقوله: ( إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت ) ليس بمعنى الأمر: أنْ يصنع ما شاء، ولكنه على معنى التهديد والوعيد كقوله تعالى، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40.) وقوله تعالى { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ }(الزمر: 15.)، والمعني : إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإنَّ الله يُجازيك عليه. وقول النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم): (من باع الخمر، فَليُشَقِّص الخنازير) ( ، يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعدِّدة. وقيل بل هو أمرٌ، ولكن معناه: الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستحي، صنع ما شاء، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر، على حدِّ قوله (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ كَذَب عليَّ متعمداً، فليتبوَّأ مقعده من النارِ) (9)، فإنَّ لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر، وإنَّ من كذب عليه تبوأ مقعده من النار. وعن سلمانَ الفارسي قال: إنَّ الله إذا أرادَ بعبدٍ هلاكاً، نزَعَ منه الحياءَ ، فإذا نزعَ منه الحياءَ ، لم تلقه إلاَّ مقيتاً مُمقَّتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً، نزع منه الأمانةَ ، فلم تلقه إلا خائناً مخوَّناً ، فإذا كان خائناً مخوناً ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظاً غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً ، نزع رِبْقَ الإيمان من عنقه ، فإذا نزع رِبْقَ الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطاناً لعيناً ملعناً (10).وعن ابن عباس قال: الحياءُ والإيمانُ في قَرَنٍ، فإذا نُزِعَ الحياءُ، تبعه الآخر (11).وقد جعل النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم)الحياءَ مِنَ الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وسلم)مرَّ على رجلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء يقولُ : إنَّك لتستحيي، كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): (دَعْهُ ، فإنَّ الحياءَ مِنَ الإيمانِ) (12)
وفي " الصحيحين "عن أبي هُريرة قال: (الحياءُ شُعبةٌ من الإيمان ) (13). وفي " الصحيحين " عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (الحياءُ لا يأتي إلاَّ بخيرٍ )(14). وفي حديث الأشج قال : قال لي رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ فيك لخُلُقَيْن يُحبُّهما الله ) قلت: ما هما ؟ قال: (الحِلْمُ والحياء ) قلت: أقديماً كان أو حديثاً ؟ قال: ( بل قديماً )، قلت: الحمد لله الذي جعلني على خُلُقين يحبهما الله (15).
واعلم أنَّ الحياء من حيث مصدره نوعان: ما كان خَلْقاً وجِبِلَّةً غيرَ مكتسب، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يَمْنَحُها الله العبدَ ويَجبِلُه عليها، فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءةِ الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِنْ خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد روي عن عمر (رضي الله عنه) أنَّه قال: من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقي. وقال ابن سمعون: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتها مُروءةً ، فاستحالت دِيانة (16).
والثاني: ما كان مكتسباً من معرفة اللهِ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وقد يتولَّدُ الحياءُ من الله من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها فهذا من أعلى خصالِ الإيمان، بل هو مِنْ أعلى درجات الإحسّان، فإذا سُلِبَ العبدُ الحياءَ المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، والأخلاق الدنيئة، فصار كأنَّه لا إيمانَ له.
والحياء من حيث حكمه الشرعي منه ما يمد ومنه ما يذم: والحياءَ الممدوح إنَّما يُراد به الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل، وتركِ القبيح. ،
أما الحياء المذموم فهو الذي ورد فيه قوله تعالىوالله لا يستحيي من الحق ) (الأحزاب :53) فمن واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق في إقامته ، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمط حقاً راجعاً إلى غيره(17). فالانكسار الذي يورث التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، إنَّما هو ضعفٌ وخَوَرٌ، وعجزٌ ومهانة ، والله أعلم .
وقيل معنى قوله: ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت ) إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنعْ منه حينئذٍ ما شئتَ ، وهذا قولُ جماعةٍ من الأئمة ، منهم : أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحُكي مثله عن الإمام أحمد، " ومن هذا قولُ بعض السَّلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أنْ لا تعملَ في السرِّ شيئاً تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي – إن شاء الله - قولُ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم): (لإثم ما حاكَ في صدرك، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس) في شرح الحديث السابع والعشرين إنْ شاء الله تعالى. وعن معمر، عن أبي إسحاق ، قال رسولَ الله(صلى الله عليه وسلم) : (إذا كرهتَ أنْ يُرى عليكَ شيءٌ في نادي القوم، فلا تفعله إذا خلوتَ ) (18).
وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولاً آخر حكاه عن جرير قال: معناه أنْ يُريدَ الرجلُ أنْ يعملَ الخيرَ، فيدعهُ حياءً من الناس كأنَّه يخاف الرِّياء، يقول: فلا يمنعك الحياءُ مِنَ المُضيِّ لما أردت، كما جاء في الحديث: (إذا جاءك الشيطانُ وأنت تُصلِّي، فقال : إنَّك تُرائي ، فزدها طولاً)(19) ثم قال أبو عُبيد: وهذا الحديث ليس يجيء سياقُه ولا لفظُه على هذا التفسير، ولا على هذا يحمله الناس. قال ابن رجب: لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظُ الحديث : إذا استحييتَ مما لا يُستحيى منه فافعل ما شئتَ ، ولا يخفى بُعْدُ هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله أعلم .
خامسا: فوائد الحديث
1 شرف الحياء، فقد حث عليه كل الأنبياء وأكدوه حتى تناقله الناس، ولم يتناسوه ولم ينسخ فيما نسخ من شرائع الأنبياء، ولم يبدل فيما بدل منها، وذلك لفضله، واتفقت العقول على حسنه وما كان كذلك لا ينسخ، مثل الصدق والعدل.
2-أن الحياء هو الذي يكفّ الإنسان ويردعه عن مواقعة السوء، فإذا خلعه المرء من ربقته تجاسر على ارتكاب كل ضلالة، وتعاطي كل سيئة.
3- الكثير من القيم التي أجمعت عليها الإنسانية إنما مصدرها الوحي الإلهي، وما بقيت وشاعت إلا بجهد الأنبياء في ترسيخها ومن تبعهم من أهل الإيمان.
--------------------------------------------
الهوامش:
1.أخرجه البخاري في صحيحه 4/215 ( 3483 ) و( 3484 ) و8/35 ( 6120 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 597 ) و( 1316 ) .
2.أخرجه : أحمد 5/383 و405 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 2028 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/371 ، والخطيب في " تاريخه " 12/135 من طرق عن حذيفة ، به ..
3.ذكره ابن أبي حاتم في " العلل " 3/161 ( 2538 ) .
4.علل الدارقطني 6/180-181 س ( 1053 ) .
5.أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20149 ) .
6.خرَّجه الطبراني في " الأوسط " ( 9400 ).
7.ابن عاشور: التحرير والتنوير: تفسير الآية:26 من سورة البقرة.
8.أخرجه : الحميدي ( 760 ) ، وأحمد 4/253 ، والدارمي ( 2102 ) ، وأبو داود ( 3489 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 884 ) وفي " الأوسط " ، له ( 8532 ) ، والبيهقي 6/12 ، وإسناده ضعيف لجهالة حال عمر بن بيان التغلبي . قوله : (( فليشقص الخنازير )) معناه : فليقطع الخنازير قطعاً كما يفعل بالشاة إذا بيع لحمها، المعنى: من استحل بيع الخمر ، فلْيستحل بيع الخنازير ، فإنَّهما في التحريم سواء ، وهذا لفظ معناه النهي ، تقديره : من باع الخمر فليكن للخنازير قصاباً . انظر : لسان العرب 7/163 .
9.أخرجه : الطيالسي ( 2420 ) ، وأحمد 2/410 و469 و519 ، والدارمي ( 559 ) ، والبخاري 1/38 ( 110 ) و8/54 ( 6197 ) ، ومسلم 1/7 ( 2 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وهو حديث متواتر.
10.أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/204 .
11.خرّجه كله حميدُ بنُ زنجويه في كتاب " الأدب ".
12.صحيح البخاري 8/35 ( 6118 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 36 ) ( 59 ) .
13.صحيح البخاري 1/9 ( 9 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 35 ) ( 57 ) و( 58 ) .
14.صحيح البخاري 8/35 ( 6117 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 37 ) ( 60 ) .
15.أحمد في " مسنده " 4/205 ، وهو حديث صحيح . والنسائي في " الكبرى " ( 7746 ) و( 8306 ) .
16.انظر : تاريخ بغداد 1/275 ، وصفة الصفوة 2/472 .
17.راجع ابن عاشور: تفسير الآية:53 من سورة الأحزاب.
18.الجامع لمعمر " ( 20151 ) .
19.أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 35 ) ، وابن أبي شيبة ( 8357 ) وأبو نعيم في " الحلية " 4/132 من قول الحارث بن قيس .
السبيل أونلاين - شرح الحديث
تقديم : د.البشير عبد العالي
أولا نص الحديث :
عَنْ أبي مَسعودٍ البَدريِّ - رضي الله عنه - ، قال : قال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولى : إذا لَم تَستَحْيِ ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ ) رَواهُ البُخاريُّ.
ثانيا سند الحديث :
هذا الحديثُ خرَّجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حِراش، عن أبي مسعود، عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) (1)، ولم يخرجه مسلم ؛ وقد رواه قوم ، فقالوا: عن رِبعي، عن حذيفة، عن النَّبيِّ(صلى الله عليه وسلم)(2) فاختلف في إسناده، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأنَّ القولَ قولُ من قال:عن أبي مسعودمنهم: البخاري، وأبو زرعة الرازي(3) والدارقطني(4) وغيرهم، ويدلُّ على صحة ذلك أنَّه قد رُويَ من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه(5). وخرَّجه الطبراني من حديث أبي الطفيل ، عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم)أيضاً (6).
ثالثا متن الحديث :
يدور معنى الحديث حول الحياء، وكونه قيمة إيمانية موروثة عن مشكاة النبوة، وأنه الحاجز الحقيقي بين الإنسان وكثير من القبائح، وبهذا نفهم لماذا يصر أعداء الأنبياء ويلحون بشدة على نبذ الأخلاق عامة، وخلق الحياء بصورة خاصة، ويربطونه مطلقا بالتخلف.
رابعا فهم الحديث :
قولُه(صلى الله عليه وسلم): (إنَّ ممّا أدرك الناسُ من كلام النبوَّةِ الأولى ) يشيرُ إلى أنَّ هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرنٍ، كما تورثوا العديد من القيم والسلوك.
والاستحياء والحياء واحد وهو انقباض النفس من صدور فعل استشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عمّا من شأنه أن يُفعل(7) .
وقوله: ( إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت ) ليس بمعنى الأمر: أنْ يصنع ما شاء، ولكنه على معنى التهديد والوعيد كقوله تعالى، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40.) وقوله تعالى { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ }(الزمر: 15.)، والمعني : إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإنَّ الله يُجازيك عليه. وقول النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم): (من باع الخمر، فَليُشَقِّص الخنازير) ( ، يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعدِّدة. وقيل بل هو أمرٌ، ولكن معناه: الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستحي، صنع ما شاء، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر، على حدِّ قوله (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ كَذَب عليَّ متعمداً، فليتبوَّأ مقعده من النارِ) (9)، فإنَّ لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر، وإنَّ من كذب عليه تبوأ مقعده من النار. وعن سلمانَ الفارسي قال: إنَّ الله إذا أرادَ بعبدٍ هلاكاً، نزَعَ منه الحياءَ ، فإذا نزعَ منه الحياءَ ، لم تلقه إلاَّ مقيتاً مُمقَّتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً، نزع منه الأمانةَ ، فلم تلقه إلا خائناً مخوَّناً ، فإذا كان خائناً مخوناً ، نزع منه الرحمة ، فلم تلقه إلا فظاً غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً ، نزع رِبْقَ الإيمان من عنقه ، فإذا نزع رِبْقَ الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطاناً لعيناً ملعناً (10).وعن ابن عباس قال: الحياءُ والإيمانُ في قَرَنٍ، فإذا نُزِعَ الحياءُ، تبعه الآخر (11).وقد جعل النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم)الحياءَ مِنَ الإيمان كما في " الصحيحين " عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وسلم)مرَّ على رجلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء يقولُ : إنَّك لتستحيي، كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): (دَعْهُ ، فإنَّ الحياءَ مِنَ الإيمانِ) (12)
وفي " الصحيحين "عن أبي هُريرة قال: (الحياءُ شُعبةٌ من الإيمان ) (13). وفي " الصحيحين " عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (الحياءُ لا يأتي إلاَّ بخيرٍ )(14). وفي حديث الأشج قال : قال لي رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ فيك لخُلُقَيْن يُحبُّهما الله ) قلت: ما هما ؟ قال: (الحِلْمُ والحياء ) قلت: أقديماً كان أو حديثاً ؟ قال: ( بل قديماً )، قلت: الحمد لله الذي جعلني على خُلُقين يحبهما الله (15).
واعلم أنَّ الحياء من حيث مصدره نوعان: ما كان خَلْقاً وجِبِلَّةً غيرَ مكتسب، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يَمْنَحُها الله العبدَ ويَجبِلُه عليها، فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءةِ الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِنْ خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد روي عن عمر (رضي الله عنه) أنَّه قال: من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقي. وقال ابن سمعون: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتها مُروءةً ، فاستحالت دِيانة (16).
والثاني: ما كان مكتسباً من معرفة اللهِ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وقد يتولَّدُ الحياءُ من الله من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها فهذا من أعلى خصالِ الإيمان، بل هو مِنْ أعلى درجات الإحسّان، فإذا سُلِبَ العبدُ الحياءَ المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، والأخلاق الدنيئة، فصار كأنَّه لا إيمانَ له.
والحياء من حيث حكمه الشرعي منه ما يمد ومنه ما يذم: والحياءَ الممدوح إنَّما يُراد به الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل، وتركِ القبيح. ،
أما الحياء المذموم فهو الذي ورد فيه قوله تعالىوالله لا يستحيي من الحق ) (الأحزاب :53) فمن واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق في إقامته ، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمط حقاً راجعاً إلى غيره(17). فالانكسار الذي يورث التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، إنَّما هو ضعفٌ وخَوَرٌ، وعجزٌ ومهانة ، والله أعلم .
وقيل معنى قوله: ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت ) إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس ، لكونه من أفعال الطاعات ، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة ، فاصنعْ منه حينئذٍ ما شئتَ ، وهذا قولُ جماعةٍ من الأئمة ، منهم : أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحُكي مثله عن الإمام أحمد، " ومن هذا قولُ بعض السَّلف - وقد سئل عن المروءة - فقال : أنْ لا تعملَ في السرِّ شيئاً تستحيي منه في العلانية ، وسيأتي – إن شاء الله - قولُ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم): (لإثم ما حاكَ في صدرك، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس) في شرح الحديث السابع والعشرين إنْ شاء الله تعالى. وعن معمر، عن أبي إسحاق ، قال رسولَ الله(صلى الله عليه وسلم) : (إذا كرهتَ أنْ يُرى عليكَ شيءٌ في نادي القوم، فلا تفعله إذا خلوتَ ) (18).
وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولاً آخر حكاه عن جرير قال: معناه أنْ يُريدَ الرجلُ أنْ يعملَ الخيرَ، فيدعهُ حياءً من الناس كأنَّه يخاف الرِّياء، يقول: فلا يمنعك الحياءُ مِنَ المُضيِّ لما أردت، كما جاء في الحديث: (إذا جاءك الشيطانُ وأنت تُصلِّي، فقال : إنَّك تُرائي ، فزدها طولاً)(19) ثم قال أبو عُبيد: وهذا الحديث ليس يجيء سياقُه ولا لفظُه على هذا التفسير، ولا على هذا يحمله الناس. قال ابن رجب: لو كان على ما قاله جرير ، لكان لفظُ الحديث : إذا استحييتَ مما لا يُستحيى منه فافعل ما شئتَ ، ولا يخفى بُعْدُ هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله أعلم .
خامسا: فوائد الحديث
1 شرف الحياء، فقد حث عليه كل الأنبياء وأكدوه حتى تناقله الناس، ولم يتناسوه ولم ينسخ فيما نسخ من شرائع الأنبياء، ولم يبدل فيما بدل منها، وذلك لفضله، واتفقت العقول على حسنه وما كان كذلك لا ينسخ، مثل الصدق والعدل.
2-أن الحياء هو الذي يكفّ الإنسان ويردعه عن مواقعة السوء، فإذا خلعه المرء من ربقته تجاسر على ارتكاب كل ضلالة، وتعاطي كل سيئة.
3- الكثير من القيم التي أجمعت عليها الإنسانية إنما مصدرها الوحي الإلهي، وما بقيت وشاعت إلا بجهد الأنبياء في ترسيخها ومن تبعهم من أهل الإيمان.
--------------------------------------------
الهوامش:
1.أخرجه البخاري في صحيحه 4/215 ( 3483 ) و( 3484 ) و8/35 ( 6120 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 597 ) و( 1316 ) .
2.أخرجه : أحمد 5/383 و405 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 2028 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/371 ، والخطيب في " تاريخه " 12/135 من طرق عن حذيفة ، به ..
3.ذكره ابن أبي حاتم في " العلل " 3/161 ( 2538 ) .
4.علل الدارقطني 6/180-181 س ( 1053 ) .
5.أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20149 ) .
6.خرَّجه الطبراني في " الأوسط " ( 9400 ).
7.ابن عاشور: التحرير والتنوير: تفسير الآية:26 من سورة البقرة.
8.أخرجه : الحميدي ( 760 ) ، وأحمد 4/253 ، والدارمي ( 2102 ) ، وأبو داود ( 3489 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 884 ) وفي " الأوسط " ، له ( 8532 ) ، والبيهقي 6/12 ، وإسناده ضعيف لجهالة حال عمر بن بيان التغلبي . قوله : (( فليشقص الخنازير )) معناه : فليقطع الخنازير قطعاً كما يفعل بالشاة إذا بيع لحمها، المعنى: من استحل بيع الخمر ، فلْيستحل بيع الخنازير ، فإنَّهما في التحريم سواء ، وهذا لفظ معناه النهي ، تقديره : من باع الخمر فليكن للخنازير قصاباً . انظر : لسان العرب 7/163 .
9.أخرجه : الطيالسي ( 2420 ) ، وأحمد 2/410 و469 و519 ، والدارمي ( 559 ) ، والبخاري 1/38 ( 110 ) و8/54 ( 6197 ) ، ومسلم 1/7 ( 2 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وهو حديث متواتر.
10.أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/204 .
11.خرّجه كله حميدُ بنُ زنجويه في كتاب " الأدب ".
12.صحيح البخاري 8/35 ( 6118 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 36 ) ( 59 ) .
13.صحيح البخاري 1/9 ( 9 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 35 ) ( 57 ) و( 58 ) .
14.صحيح البخاري 8/35 ( 6117 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 37 ) ( 60 ) .
15.أحمد في " مسنده " 4/205 ، وهو حديث صحيح . والنسائي في " الكبرى " ( 7746 ) و( 8306 ) .
16.انظر : تاريخ بغداد 1/275 ، وصفة الصفوة 2/472 .
17.راجع ابن عاشور: تفسير الآية:53 من سورة الأحزاب.
18.الجامع لمعمر " ( 20151 ) .
19.أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 35 ) ، وابن أبي شيبة ( 8357 ) وأبو نعيم في " الحلية " 4/132 من قول الحارث بن قيس .