الإمتاع والمؤانسة
أبو حيان التوحيدي
الكتاب من عيون الأدب العربي، ويضم مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض وهو ثلاثة أجزاء،
ويضم الكتاب أضواء كاشفة لحياة الأمراء في النصف الثاني من القرن الرابع، وما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وشراب. ومن نوادره: وصف مناظرة السيرافي ومتى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، وسؤال الوزير عن رسائل أخوان الصفا وحقيقة مؤلفيها، وإحصاء عدد القيان العاملات في ملاهي الكرخ سنة 360هـ. وطريقة الكتاب أن الوزير يقترح الخوض في موضوع، وأبو حيان يجيبه عما اقترح، حتى إذا أراد الوزير الإخلاد إلى النوم سأل أبا حيان ملحة الوداع، وربما اقترح أن تكون ملحة الوداع شعراً بدوياً، يشم من رائحة الشيح والقيصوم.
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو حيان التوحيدي: نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين.
أما بعد، فإني أقول منبهاً لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلم البليد؛ وأن رأى المجرب البصير، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة، وكليات الحس في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر؛ وبالجملة، الداران متفقتان في الخير المغتبط به، والشر المندوم عليه؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما، والجزاء المتأخر في الأخرى؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه، في حالي سفره ومقامه؛ وفقره وغنائه، وشدته ورخائه، وسارئه وضرائه، وخيفته ورجائه؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل، وإياه أستعين في كل قول وعمل.
قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كل خير بحالك، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشرٍ تبديه، وجاهٍ تبذله، ووعدٍ تقدمه، وضمانٍ تؤكده، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة، ورباط النعمة، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود، والعادة المرضية؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب، والأجر مذخور، ورضوان الله واقع؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك، بمنه ولطفه.
فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً، ووعيته وعياً تاماً؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله، والصلاح في طرفيه ووسطه، والغنيمة في ظاهره وباطنه، والشفقة من أوله إلى آخره. وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد، ونكولي عنه أبعد وأصعب، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ.
قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل، وفي كل رأيٍ ونظر -: إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه - عابساً على ابن عباد مغيظاً منه، مقروح الكبد، لما نالك به من الحرمان المر، والصد القبيح، واللقاء الكريه، والجفاء الفاحش، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة، والتغافل عن الثواب على الخدمة، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة.
وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك، وعناءً نال منك في عرض أحوالك؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه؛ فأرعيتك بصري، وأعرتك سمعي، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية، وصحة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده - وأخطب لك قبولاً منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفرك على تصحيحه، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرب لخدمها ونصحائها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها؛ والراعي لرعيتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولاه، وكفاه المهم في دنياه وأخراه، بمنه وقدرته.
نعم ورتبت ذلك كله، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصب والمحاماة.
أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة، فتحدثه بما تحب وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما لبس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلة العالم، وسقطة المتحري، وخجلة الواثق؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مرانٍ سوى مرانك، ولبسةٍ لا تشبه لبستك؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد، وتكلم فأفاد، وبسط فزاد؛ وإلا سكر، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين؛ إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها، وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها.
والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي؛ وجهلت أن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعل لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتد، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف؛ ولست أنت أول من بر فعق، ولا أنا أول من جفى فنق. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجده، وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقع قلة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل أصبعك أسفاً، وتزدرد ريقك هفاً، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك؛ هيهات؛ رقدت فحلمت، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظٌ للساهي، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم؛ وقد قال الأول:
ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير؛ ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح؛ وأنت مولىً وأنا عبد، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ، وأنت أول وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آملٌ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة؛ فقد أعنتني على ما كان مني، ودللت على ملكك لي؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة؛ وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك.
هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمر، والطري والعاسي، والمحبوب والمكروه؛ فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي، وأحضر لما أريغ منه، وأدخل في الحجة عليك ولك؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك؛ وإذا عزمت فتوكل على الله؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته؛ واتق الحذف المخل بالمعنى، وإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغنى عنه؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النفس، وأعلق بالأدب؛ ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للريب؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع؛ وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز؛ ونسجه بالرقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويجول الذهن، وتتمطى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة؛ فاحذر هذا النعت وروادفه، واتق هذا الحكم وقوائفه؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثر ببياضك
أبو حيان التوحيدي
الكتاب من عيون الأدب العربي، ويضم مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض وهو ثلاثة أجزاء،
ويضم الكتاب أضواء كاشفة لحياة الأمراء في النصف الثاني من القرن الرابع، وما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وشراب. ومن نوادره: وصف مناظرة السيرافي ومتى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، وسؤال الوزير عن رسائل أخوان الصفا وحقيقة مؤلفيها، وإحصاء عدد القيان العاملات في ملاهي الكرخ سنة 360هـ. وطريقة الكتاب أن الوزير يقترح الخوض في موضوع، وأبو حيان يجيبه عما اقترح، حتى إذا أراد الوزير الإخلاد إلى النوم سأل أبا حيان ملحة الوداع، وربما اقترح أن تكون ملحة الوداع شعراً بدوياً، يشم من رائحة الشيح والقيصوم.
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو حيان التوحيدي: نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين.
أما بعد، فإني أقول منبهاً لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلم البليد؛ وأن رأى المجرب البصير، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة، وكليات الحس في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر؛ وبالجملة، الداران متفقتان في الخير المغتبط به، والشر المندوم عليه؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما، والجزاء المتأخر في الأخرى؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه، في حالي سفره ومقامه؛ وفقره وغنائه، وشدته ورخائه، وسارئه وضرائه، وخيفته ورجائه؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل، وإياه أستعين في كل قول وعمل.
قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كل خير بحالك، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشرٍ تبديه، وجاهٍ تبذله، ووعدٍ تقدمه، وضمانٍ تؤكده، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة، ورباط النعمة، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود، والعادة المرضية؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب، والأجر مذخور، ورضوان الله واقع؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك، بمنه ولطفه.
فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً، ووعيته وعياً تاماً؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله، والصلاح في طرفيه ووسطه، والغنيمة في ظاهره وباطنه، والشفقة من أوله إلى آخره. وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد، ونكولي عنه أبعد وأصعب، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ.
قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل، وفي كل رأيٍ ونظر -: إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه - عابساً على ابن عباد مغيظاً منه، مقروح الكبد، لما نالك به من الحرمان المر، والصد القبيح، واللقاء الكريه، والجفاء الفاحش، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة، والتغافل عن الثواب على الخدمة، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة.
وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك، وعناءً نال منك في عرض أحوالك؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه؛ فأرعيتك بصري، وأعرتك سمعي، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية، وصحة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده - وأخطب لك قبولاً منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفرك على تصحيحه، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرب لخدمها ونصحائها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها؛ والراعي لرعيتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولاه، وكفاه المهم في دنياه وأخراه، بمنه وقدرته.
نعم ورتبت ذلك كله، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصب والمحاماة.
أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة، فتحدثه بما تحب وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما لبس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلة العالم، وسقطة المتحري، وخجلة الواثق؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مرانٍ سوى مرانك، ولبسةٍ لا تشبه لبستك؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد، وتكلم فأفاد، وبسط فزاد؛ وإلا سكر، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين؛ إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها، وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها.
والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي؛ وجهلت أن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعل لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتد، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف؛ ولست أنت أول من بر فعق، ولا أنا أول من جفى فنق. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجده، وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقع قلة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل أصبعك أسفاً، وتزدرد ريقك هفاً، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك؛ هيهات؛ رقدت فحلمت، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظٌ للساهي، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم؛ وقد قال الأول:
ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير؛ ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح؛ وأنت مولىً وأنا عبد، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ، وأنت أول وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آملٌ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة؛ فقد أعنتني على ما كان مني، ودللت على ملكك لي؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة؛ وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك.
هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمر، والطري والعاسي، والمحبوب والمكروه؛ فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي، وأحضر لما أريغ منه، وأدخل في الحجة عليك ولك؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك؛ وإذا عزمت فتوكل على الله؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته؛ واتق الحذف المخل بالمعنى، وإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغنى عنه؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النفس، وأعلق بالأدب؛ ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للريب؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع؛ وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز؛ ونسجه بالرقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويجول الذهن، وتتمطى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة؛ فاحذر هذا النعت وروادفه، واتق هذا الحكم وقوائفه؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثر ببياضك