ملتقى الانصار

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ملتقى الانصار

ملتقى للجهاد وانصاره


    الإمتاع والمؤانسة

    عكرمه المقدسي
    عكرمه المقدسي


    عدد المساهمات : 197
    نقاط : 390
    تاريخ التسجيل : 25/08/2009
    العمر : 74
    الموقع : http://www.al-amanh.net/vb/

    الإمتاع والمؤانسة Empty الإمتاع والمؤانسة

    مُساهمة  عكرمه المقدسي الجمعة سبتمبر 25, 2009 6:50 am

    الإمتاع والمؤانسة
    أبو حيان التوحيدي
    الكتاب من عيون الأدب العربي، ويضم مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض وهو ثلاثة أجزاء،
    ويضم الكتاب أضواء كاشفة لحياة الأمراء في النصف الثاني من القرن الرابع، وما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وشراب. ومن نوادره: وصف مناظرة السيرافي ومتى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، وسؤال الوزير عن رسائل أخوان الصفا وحقيقة مؤلفيها، وإحصاء عدد القيان العاملات في ملاهي الكرخ سنة 360هـ. وطريقة الكتاب أن الوزير يقترح الخوض في موضوع، وأبو حيان يجيبه عما اقترح، حتى إذا أراد الوزير الإخلاد إلى النوم سأل أبا حيان ملحة الوداع، وربما اقترح أن تكون ملحة الوداع شعراً بدوياً، يشم من رائحة الشيح والقيصوم.
    الجزء الأول
    بسم الله الرحمن الرحيم
    قال أبو حيان التوحيدي: نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين.
    أما بعد، فإني أقول منبهاً لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلم البليد؛ وأن رأى المجرب البصير، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة، وكليات الحس في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر؛ وبالجملة، الداران متفقتان في الخير المغتبط به، والشر المندوم عليه؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما، والجزاء المتأخر في الأخرى؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه، في حالي سفره ومقامه؛ وفقره وغنائه، وشدته ورخائه، وسارئه وضرائه، وخيفته ورجائه؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل، وإياه أستعين في كل قول وعمل.
    قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كل خير بحالك، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشرٍ تبديه، وجاهٍ تبذله، ووعدٍ تقدمه، وضمانٍ تؤكده، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة، ورباط النعمة، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود، والعادة المرضية؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب، والأجر مذخور، ورضوان الله واقع؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك، بمنه ولطفه.
    فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً، ووعيته وعياً تاماً؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله، والصلاح في طرفيه ووسطه، والغنيمة في ظاهره وباطنه، والشفقة من أوله إلى آخره. وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد، ونكولي عنه أبعد وأصعب، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ.
    قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل، وفي كل رأيٍ ونظر -: إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه - عابساً على ابن عباد مغيظاً منه، مقروح الكبد، لما نالك به من الحرمان المر، والصد القبيح، واللقاء الكريه، والجفاء الفاحش، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة، والتغافل عن الثواب على الخدمة، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة.
    وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك، وعناءً نال منك في عرض أحوالك؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه؛ فأرعيتك بصري، وأعرتك سمعي، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية، وصحة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده - وأخطب لك قبولاً منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفرك على تصحيحه، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرب لخدمها ونصحائها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها؛ والراعي لرعيتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولاه، وكفاه المهم في دنياه وأخراه، بمنه وقدرته.
    نعم ورتبت ذلك كله، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصب والمحاماة.
    أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة، فتحدثه بما تحب وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما لبس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلة العالم، وسقطة المتحري، وخجلة الواثق؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مرانٍ سوى مرانك، ولبسةٍ لا تشبه لبستك؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد، وتكلم فأفاد، وبسط فزاد؛ وإلا سكر، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين؛ إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها، وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها.
    والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي؛ وجهلت أن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
    وبعد، فما أطيل، ولعل لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتد، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف؛ ولست أنت أول من بر فعق، ولا أنا أول من جفى فنق. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجده، وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقع قلة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل أصبعك أسفاً، وتزدرد ريقك هفاً، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك؛ هيهات؛ رقدت فحلمت، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظٌ للساهي، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم؛ وقد قال الأول:
    ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
    فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير؛ ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح؛ وأنت مولىً وأنا عبد، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ، وأنت أول وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آملٌ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة؛ فقد أعنتني على ما كان مني، ودللت على ملكك لي؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة؛ وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك.
    هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمر، والطري والعاسي، والمحبوب والمكروه؛ فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي، وأحضر لما أريغ منه، وأدخل في الحجة عليك ولك؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك؛ وإذا عزمت فتوكل على الله؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته؛ واتق الحذف المخل بالمعنى، وإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغنى عنه؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النفس، وأعلق بالأدب؛ ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للريب؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع؛ وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز؛ ونسجه بالرقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويجول الذهن، وتتمطى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة؛ فاحذر هذا النعت وروادفه، واتق هذا الحكم وقوائفه؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثر ببياضك
    عكرمه المقدسي
    عكرمه المقدسي


    عدد المساهمات : 197
    نقاط : 390
    تاريخ التسجيل : 25/08/2009
    العمر : 74
    الموقع : http://www.al-amanh.net/vb/

    الإمتاع والمؤانسة Empty رد: الإمتاع والمؤانسة

    مُساهمة  عكرمه المقدسي الجمعة سبتمبر 25, 2009 6:52 am

    سوادهم، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم، ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم واعرف قدرك تسلم، والزم حدك تأمن، فليس الكودن من العتيق في شيء، ولا الفقير من الغني على شيء، أما سمعت قول الناس: ليس الشامي للعراقي بصاحب، ولا الكردي من الدندي بساخر، فإن طال فلا تبل، وإن تشعب فلا تكترث، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية، وأظفر بالمراد، وأجرى على العادة.
    فكتبت: "بسم الله الرحمن الرحيم"، أقول أيها الشيخ - عطف الله قلبك علي، وألهمك الإحسان إلي - في جواب جميع ما قلته واجداً علي وعاتباً، وقابضاً، وباسطاً، ومرشداً، وناصحاً؛ ما يعرف الحق فيه، ويستبين الصواب منه، غير خائنٍ لك، ولا جانحٍ إلى مخالفتك، ولا مريغٍ للباطل معك، ولا جاحدٍ لأياديك القديمة، والحديثة، ولا منكرٍ لنعمتك الكافية الشافية، ولا غاظٍ على فواضلك المجتمعة والمتفرقة، ولا تاركٍ لشيء هو علي من أجل شيء هو لي، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو علي؛ بل أجهز دقة وجله إليك حتى تراه بسده وغباره، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره. كأني لم أسمع قول الأول:
    والكفر مخبثةٌ لنفس المنعـم والشكر مبعثةٌ لنفس المفضل
    أأنا أدعك واجداً علي، وأرقد وأنت ماقتٌ لي، وأجد حس نعمة أنت وهبتها إلي، وألذ عيشاً أنت أذقتني حلاوته. أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي، وتجاه عيني، وحشو نفسي، وراحة حلمي، وزاد حياتي، ومادة روحي هيهات، هذا بعيد من القياس، وغير معهود بين أحرار الناس؛ الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم، وحرصٌ على إكرام أنفسهم؛ قد عبقوا بفوائح الفتوة، وعلقوا بحبائل المروءة، وشدوا من الحكمة أشرف الأبواب؛ واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم؛ وحازوا شرفاً بعد شرف، وانحازوا عن نطف بعد نطف ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة، وعزفوا أنفسهم عن زهراتها بتجربة صادقة.
    فأول ما أبدؤك به أنني طننت ظناً لا كيقين أن شيئاً مما كنت فيه مع الوزير - أدام الله أيامه، وقصم أعداءه - ليس مما يهمك، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له؛ وحسبت أيضاً أنني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقصتني به، وزريت علي فيه؛ وأنك ربما قلت: لم بدأت بما أسئلك عنه ولم أرخص لك فيه، هلا كظمت على جرتك، وطويت ما بين جنبيك وما علي مما يدور بين الصاحب وخادمه والرؤوساء، والناظرين في أمور الدهماء والمتصفحين لأحوال العامة والخاصة، ولهم أسرار وعيوبٌ لا يقف عليها أقرب الناس إليهم، وأعز الناس عليهم، وأنت أيضاً فلم تسألني عنه، فكان في تقديري أنك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت، وأنك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة، ولا في الإعراض عنها فائتة.
    وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبس بظني، فإني أهدي ذلك كله بغثاثته وسمانته، وحلاوته ومرارته، ورقته وخثارته في هذا المكان؛ ثم أنت أبصر بعد ذلك في كتمانه وإفشائه، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته؛ ووالله ما أرى هذا أمراً صعباً إذا وصل إلى مرادك ولا كلفةً شاقةً إذا أكسبني مرضاتك؛ وإن كان ذلك يمر بأشياء كثيرةٍ ومختلفةٍ، متعصية غريبةٍ، منها ما يشيط به الدم المحقون، وينزع من أجله الروح العزيز، ويستصغر معه الصلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر؛ وإن كان فيها أيضاً غير ذلك مما يضحك السن، ويفكه النفس، ويدعو إلى الرشاد، ويدل على النصح، ويؤكد الحرمة، ويعقد الذمام، وينشر الحكمة، ويشرف الهمة، ويلقح العقل، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة، وينفق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة، ويوقظ العيون الناعسة، ويبل الشن المتغضف، ويندى الطين المترشف؛ ويكون سبباً قوياً على حسن الحال وطلب العيش، فإن هذا العاجلة محبوبة، والرفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكل حولٍ وقوةٍ مخطوبة، والدناي حلوةٌ خضرة وعذبةٌ نضرة، ومن شف أمله شق عمله؛ ومن اشتد إلحاحه، توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه؛ ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه.
    وفي الجملة:
    من لم يكن لله متهـمـاً لم يمس محتاجاً إلى أحد
    ولابد من فتى يعين على الدهر، ويغني عن كرام الناس فضلاً عن لئامهم، ويذلل قعود الصبر، ويجم راحلة الأمل، ويحلي مر اليأس؛ والعزلة محمودةٌ إلا أنها محتاجة إلى الكفاية، والقناعة مزة فكهةٌ ولكنها فقيرةٌ إلى البلغة وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداةٌ تجدها وفاشيةٌ تمدها، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين، ورغبةٍ في الآخرة شديدة، وفطامٍ عن دار الدنيا صعب، ولسانٍ بالحلو والحامض يلغ.
    قال ابن السماك: لولا ثلاثٌ لم يقع حيف، ولم يسل سيف، لقمةٌ أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك أنعم من سلك، وليس كل أحد له هذه القوة، ولا فيه هذه المنة والإنسان بشر، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادةٌ طالبة، وحاجةٌ هاتكة، ونفسٌ جموح، وعينٌ طموح؛ وعقلٌ طفيف، ورأي ضعيف، يهفو لأول ريح، ويستخيل لأول بارق؛ هذا إذا تخلص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهرٌ لشهواته، وقمعٌ لهوائجه وقبولٌ من ناصحه، وتهيؤٌ في سعيه، وتبوءٌ في معان حظه، وائتمامٌ بسعادته، واستبصارٌ في طلب ما عند ربه، واستنصافٌ من هواه المضل لعقله المرشد، هذا قليلٌ وصعب ولو قلت: معدومٌ أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد، لما خفت عائقاً يعوقني، ولا حسوداً يرد قولي. قال ابن السماك: الله المستعان على ألسنٍ تصف وقلوبٍ تعترف، وأعمالٍ تختلف. وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث - ورآه لا يلي له عملاً، ولم يقبل منه نائلاً -: يا ابن أخي، هي الدنيا، فإما أن ترضع معنا؛ وإما أن ترتدع عنا. وربما قال بعض المتكلفين قد قال بعض السلف: ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه. وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن. وربما قال آخر من المتقدمين: "اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً". وهذا أيضاً كلامٌ منمق، لا يرجع إلى معنىً محقق؛ أين هو من قول المسيح - عليه السلام - حين قال: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر؛ ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر. وأين هو من قول الآخر: الدنيا والآخرة ضرتان، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى.
    وهذا لأن الإنسان صغير الحجم، ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أمره ونهيه، فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار: فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من هذه؛ ومن تخنث وتليث لم يكن رجلاً ولا امرأة، ولا يكون أباً ولا أماً؛ وهذا كما نرى.
    ونرجح فنقول: ونعوذ بالله من الفقر خاصة إذا لم يكن لصاحبه عياذٌ من التقوى، ولا عمادٌ من الصبر، ولا دعامةٌ من الأنفة، ولا اصطبارٌ على المرارة.
    وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم، ويوسعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يهتمون بذخائر الشكر المعجل في الدنيا، يحرصون على ودائع الأجر المؤجل في الأخرى؛ ويتلذذون بالثناء، ويهتزون للدعاء؛ وتملكهم الأريحية عند مسئلة المحتاج، وتعتريهم الهزة معها والابتهاج؛ وذلك لعشقهم الثناء الباقي؛ والصنيع الواقي؛ ويرون الغنيمة في الغرامة، والربح في البذل، والحظ في الإيثار، والزيادة في النقص؛ أعني بالزيادة. الخلف المنتظر من الله؛ وبالنقص: العطاء؛ ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال: أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال:
    أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك
    قال: ولو كان هذا صحيحاً كان لا ينبغي أن يكتسب المال، لأنه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق. هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل؛ نعم، وكانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أفضلوا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا، وإذا عالوا صبروا، وإذا نالوا شكروا؛ وإذا أنفقوا واسوا، وإذا امتحنوا تأسوا؛ وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة، وإلى ضرائب مأمونة؛ وإلى ديانات قوية، وأماناتٍ ثخينة؛ وكان لهم مع الله أسرار طاهرة، وعلانيةٌ مقبولة؛ ومع عباد الله معاملةٌ جميلة، ورحمةٌ واسعة ومعدلةٌ فاشية؛ وكانت تجارتهم في العلم والحكمة، وعادتهم جارية على الضيافة والتكرمة؛ وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة؛ وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشر؛ وتنافسوا في اتخاذ الصنائع، وادخار البضائع أعني صنائع الشكر، وبضائع الأجر فذهب هذا كله، وتاه أهله؛ وأصبح الدين وقد أخلق لبوسه، وأوحش مأنوسه، واقتلع مغروسه؛ وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وعاد كل شيء إلى كدره وخاثره، وفاسده وضائره؛ وحصل الأمر على أن يقال: فلانٌ خفيف الروح، وفلان حسن الوجه، وفلان ظريف الجملة، حلو الشمائل، ظاهر الكيس، قوي الدست في الشطرنج، حسن اللعب في النرد، جيدٌ في الاستخراج، مدبر للأموال، بذولٌ للجهد، معروفٌ بالاستقصاء لا يغضى عن دانق، ولا يتغافل عن قيراط؛ إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره، والكاتب من تسطيره.
    وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد، وليس فيها شيءٌ مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف.
    وأرجع عن هذه الشكلية الطويلة اللاذعة والبلية العامة الشاملة؛ إلى عين ما رسمت لي ذكره، وكلفتني إعادته؛ عائذاً بالله في صرف الأذى عني وسوق الخير إلي؛ ولائذاً بكرمك الذي رشتن به إلى الساعة، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة؛ والأعمال بخواتيمها، والصدور بأعجازها؛ وأنت أولى الناس بالصفح والتجاوز عني إذا عرفت براءتي في كل ما يتعلق بي من ذمامك؛ ويجب علي من الحق في مودتك، والاعتصام بحبلك والانتجاع من عشبك، والارتغاء من لبنك.
    الليلة الأولى
    وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد، ولا في الغضب ولا في الرضا.
    ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته، وأنا أربأ بك عن ذلك، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال؛ بملء فيك، وجم خاطرك، وحاضر علمك؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك، وزائد رأيك، وربح ذهنك؛ ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغبياء؛ واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت؛ واصدق إذا أسندت، وافصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً؛ وما أحسن ما قال الأول:
    لا تقدح الظنة في حكمـه شيمته عـدلٌ وإنـصـاف
    يمضي إذا لم تلقه شـبـهةٌ وفي اعتراض الشك وقاف
    وقد قال الأول:
    عكرمه المقدسي
    عكرمه المقدسي


    عدد المساهمات : 197
    نقاط : 390
    تاريخ التسجيل : 25/08/2009
    العمر : 74
    الموقع : http://www.al-amanh.net/vb/

    الإمتاع والمؤانسة Empty رد: الإمتاع والمؤانسة

    مُساهمة  عكرمه المقدسي الجمعة سبتمبر 25, 2009 6:54 am

    أبالي البلاء وإني امرؤٌ إذا ما تبينت لم أرتب
    وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه، وعلى تحريفك وقرافه.
    فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة، وقد عقدت خنصري على المسألة. فقال - حرس الله روحه -: قل - عافاك الله - ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.
    قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش.
    قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة? إن الله تعالى - على علو شأنه، وبسطه ملكه، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله؛ وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف؛ هيهات، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء.
    فقلت: أيها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين؛ وقد قال بعض السلف الصالح: "ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه". والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته -: "يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً".
    قال: هذا باب مفترقٌ فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة، وحروف متقاومة؛ ولفظٍ عذب، ومأخذٍ سهل؛ ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي، وتقاربٍ في التلطف الخافي، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول:
    لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر
    وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم؛ وبالعراق رد علي وقيل: هو بالزاي؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله:
    فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
    قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث? قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء، فقال: وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم? قلت: ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة. ولهذا قال بعض السلف: "حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور"، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير، فإنها إذا دثرت - أي صدئت، أي تغطت؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم: إما بالزمان، وإما بالدهر؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها؛ وأما ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفية، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية.
    فقال: بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجودٌ في قول العرب: البيت العتيق؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأما قولهم: عبد عتيق، فهو داخل في المعنى الأول، لأنه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبودية، فهو كريم. وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح. وكذلك فرس عتيق.
    وأما قولهم: هذا شيء خلق، فهو مضمن معنيين: أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة. وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى... نعم، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له، ولما كان عتيقاً كان له أعول، ومن أجل هذا الاعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم، واستحسنوا هذا الإطلاق. وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق، فقالوا: ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا في حديث الصحابة والتابعين. وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام: هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له? فقال: هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم، إلا أنهم يقولون: هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ.
    فقل: قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً. والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه.
    وههنا شيء آخر، وهو الحدثان والحدثان؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط، لأنه يقال: كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير، أي في أول زمانه، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث. وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد. قال: ما الفرق بين حدث وحدث? قلت: لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم، لأنه يقال: أخذه ما قدم وما حدث؛ فإذا قيل لإنسان: حدث يا هذا. فكأنه قيل له: صل شيئاً بالزمان يكون به في الحال، لا تقدم له من قبل.
    ثم رجعت فقلت. ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، وهي حاضرة. فقال احملها واكتبها، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث. قلت: السمع والطاعة.
    ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
    وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال: والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك? فقال: أين يذهب بكم? والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
    قال: صدق هذا الإمام في هذا الوصف، إن فيه هذا كله.
    قلت: وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:
    ولقد سئمت مآربـي فكأن أطيبها خبـيث
    إلا الحـديث فـإنـه مثل اسمه أبداً حديث
    وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأن النفس تمل، كما أن البدن يكل؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أن النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
    قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً? قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن? قال: فأردت أن يبقى ألف سنة? قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك - أضحك الله سنه -.
    الليلة الثانية
    ثم حضرت ليلة أخرى، فقال: أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره، ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره.
    فقلت: والله أيها الوزير، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك، وأحسن ثناءً عليك، وأذهب في طريق العبودية معك، منه؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح، رفعه الله إليه، والثناء الطيب أشاعه الله؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك، وكرم أخلاقك وعلو همتك، وصدق حدسك وصواب رأيك، وبركة نظرك، وظهور غنائك، وخصب فنائك، ومحبة أوليائك، وكمد أعدائك، وصباحة وجهك، وفصاحة لسانك، ونبل حسبك، وطهارة غيبك، ويمن نقيبتك، ومحمود شيمتك، ودقيق ما أودع الله فيك، وجليل ما نشر الله عنك، وغريب ما يرى منك، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب، فإنك نعشت روحه وكان خفت، وبصرته وكان عشي؛ وأنبت جناحه وكان قد حص، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ، وسمعته مراراً: من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي، ويجري على عادته معي? ومن يسأل عني، ويهتم بحالي? هيهات، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال، وملقتى القفال، ومحقق الأقوال والأفعال، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال؛ كان والله فوق المتمنى، وأعلى من أن يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير، لكنا لا نبتلى بفقده، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته؛ الدنيا ظلوم، والإنسان فيها مظلوم.
    فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه، وعن وجه غدائه وعشائه عاش.
    ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل، والوعد العريض الطويل؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت. فقال: سررتني لسروره بما كان مني، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه، وفللت عنه حد نابه، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه، وتمنع معها بنفسه؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس، ولكنه على حال لا محتمل له عليها، ولا صبر عليه معها؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه? قلت: نعم، قال: أنشدنيه، فرويت:
    أبو سليمان عالمٌ فطـن ما هو في علم بمنتقص
    لكن تطيرت عـنـد رؤيتـه من عورٍ موحش ومن برص
    وبابنة مـثـل مـا بـوالـده وهذه قصة من القـصـص
    فقال: قاتله الله، فلقد أوجع وبالغ، ولم يحفظ ذمام العلم، ولم يقض حق الفتوة. حدثني عن درجته في العلم والحكمة، وعرفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي. فقلت: وصف هؤلاء أمر متعذر، وبابٌ من الكلفة شاق؛ وليس مثلي من جسر عليه، وبلغ الصواب منه؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم؛ فعرف حاصلهم وغائبهم، وموجودهم ومفقودهم. فقال: هذا تحايلٌ لا أرضاه لك، ولا أسلمه في يدك، ولا أحتمله منك؛ ولم أطلب إليك أن تعرفهم بما هو معلوم الله منهم، وموهبة لهم، ومسوقه إليهم، ومخلوعه عليهم، على الحد الذي لا مزيد فيه ولا نقص؛ إنما أردت ان تذكر من كل واحد ما لاح منه لعينيك، وتجلى لبصيرتك، وصار له به صورةٌ في نفسك؛ فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري، وإلى هذا القدر ينتهي.
    فقلت: إذا قنع مني بهذا، فإني أخدم بما عندي، وأبلغ فيه أقصى جهدي. أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظراً، وأقعرهم غوصاً، وأصفاهم فكراً، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر؛ مع تقطع في العبارة، ولكنةٍ ناشئة من العجمة وقلة نظرٍ في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخلٍ بما عنده من هذا الكنز.
    وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة؛ ليس له في دقيقها منفذ، ولا له من لغزها مأخذ، ولولا توزع فكره في التجارة، ومحبته في الربح، وحرصه على الجمع؛ وشدته في المنع؛ لكانت قريحته تستجيب له، وغائمته تدر عليه؛ ولكنه مبدد مندد، وحب الدنيا يعمي ويصم.
    وأما ابن الخمار ففصيح، سبط الكلام، مديد النفس، طويل العنان، مرضي النقل، كثير التدقيق، لكنه يخلط الدرة بالبعرة ويفسد السمين بالغث، ويرقع الجديد بالرث؛ ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف، ويزيد في الرقم والسوم، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص؛ وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف؛ وما يصفيه بالصواب، يكدره بالإعجاب. ومع هذا يصرع في كل شهر مرة أو مرتين.
    وأما ابن السمح، فلا ينزل بفنائهم، ولا يسقى من إنائهم؛ لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل، وهو بالمتبع أشبه، وإلى طريقة الدعي أقرب، والذي يحطه عن مراتبهم شيئان: أحدهما بلاده فهمه، والآخر حرصه على كسبه؛ فهو مستفرغ مح البال مأسور العقل، يأخذ الدانق والقيراط والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف؛ والقلب متى لم ينق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة، ولم يتفوح بردع الفلسفة، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة.
    وأما القومسي أبو بكر، فهو رجل حسن البلاغة، حلو الكناية، كثير الفقر العجيبة، جماعةٌ للكتب الغريبة؛ محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة، كثير التردد في الدراسة؛ إلا أنه غير نصيح في الحكمة؛ لأن قريحته ترابية، وفكرته سحابية؛ فهو كالمقلد بين المحققين، والتابع للمتقدمين؛ مع حبٍ للدنيا شديد، وحسد لأهل الفضل عتيد.
    وأما مسكويه، ففقير بين أغنياء، وعيي بين أبنياء، لأنه شاذ، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي وقاطيغورياس، من تصنيف صديقنا بالري. قال: ومن هو? قلت: أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري، وصححه معي؛ وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ، ولكنه محسن في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل.
    فقال: يا عجباً لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظه! قلت: قد كان هذا، ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتوناً بكتب أبي زكرياء، وجابر بن حيان؛ ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه؛ هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية؛ والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق؛ ولقد قطن العامري الري خمس سنين جمعة ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ولا وعى مسألة، حتى كأنه بينه وبينه سد؛ ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله. وبعد فهو ذكي حسن الشعر نقي اللفظ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفة بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة؛ نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشح بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل؛ وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه.
    وأما عيسى بن علي، فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة، حجة في النقل والترجمة، والتصرف في فنون اللغات، وضروب المعاني والعبارات؛ وقد تصفح ما لم يتصفح كثير من هذه الجماعة، وقلب بخزائن الكبراء والسادات، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد؛ ولكنه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة، ونصيحٌ على ورقة فارغة، لسودائه الغالبة عليه، ومزاجه المتشيط بها.
    وأما نظيف، فإنه متوسط، لا يسفل عن أقلهم حظاً ولا يعلو على أكثرهم نصيباً؛ ويده في الطب أطول، ولسانه في المجالس أجول؛ ومعه رفق وحذق في الجدل.
    وأما يحيى بن عدي، فإنه كان شيخاً لين العريكة فروقة، مشوه الترجمة، رديء العبارة، لكنه كان متأتياً في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة، ولم يكن يلوذ بالإلهيات، كان ينبهر فيها ويضل في بساطها، ويستعجم عليه ما جل، فضلاً عما دق منها؛ وكان مبارك المجلس.
    فقال: ما قصرت في وصف هذه الطائفة، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم.
    حدثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها؛ وإلى أين ينتهون من يقينهم بشأنها، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها? فقلت: علمت أني لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين، أعني أبا الوفاء علي بن يحيى السامري والمعري والقوهي والصوفي وغلام زحل والصاغاني، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحراني، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض، ولا يرقمون هذا البز ولا يجهزون هذا المتاع ولا يتعاملون به؛ هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء، وهذا يعتبر الشمس والقمر، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله، حتى كأنه محظور عليهم، أو قبيح عندهم.
    وقلت: إن هؤلاء القوم - أعني الطائفة الأولى - متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باقٍ خالد؛ فأما اليقين فما الحكم به لهم، لأنهم لو كانوا على ذلك - أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته - لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرين؛ فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس، ويقظة من العقل، واستبصار من القلب، وسكون من البرهان، لما تعجلوا هذه اللذات المنقوصة، والأوطار الفاضحة، والشهوات الخسيسة، مع التبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة؛ ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسفر، ومن سرعة الخطو، لأن الحركة قد بطلت بالركاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلائه، فأي عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة، والعقيدة الرديئة، والأفعال القبيحة معوقةً ممنوعةً من الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم وعالم الروح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحل الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبد ومعان السرمد.
    قال: هذا كلام تام؛ وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تعم لي ما كنا فيه، كيف علم أبي سليمان بالنجوم وأحكامها? قلت: لا يتجاوز التقويم. ثم قال: فما تقول في الأحكام? قلت: أنشدت منذ أيام:
    علم النجوم على العقول وبال وطلاب حق لا ينال محال
    وقلت أيضاً: علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركاً مكشوفاً مخاطباً به معروفاً؛ ولا يجوز أن يكون مقنوطاً منه مطرحاً مجهولاً؛ بل الحكمة توجب أن يتوسط هذا الفن بين الإصابة والخطأ حتى لا يستغنى عن اللياذ بالله أبداً، ولا يقع اليأس من قبله أبداً؛ وعلى هذا سخر الله الإنسان وقيضه وخيره بين الأمر وفوضه؛ ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده، والرجوع إليه؛ انظر إلى حديث الطب فإن عنده الصناعة توسطت الصواب والخطأ، لتكون الحكمة سارية فيها، واللطف معههوداً بها؛ لأن الطب كما يبرأ به العليل، قد يهلك معه العليل؛ فليس بسبب أن بعض المدبرين بالطب لا ينبغي أن ينظر في الطب؛ وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعول عليه؛ انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما بينه وبينها؛ ولتكون المصلحة بالغة غايتها؛ وهذه سياسة دار الفناء، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء؛ وهكذا، فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه، وجوب الطول والعرض وإصابة الربح، وطلب العلم، كيف توسط بين السلامة والعطب، والنجاة والهلكة، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويهلك، لكان في ذلك مفسدة عامة؛ ولو استمرت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو، لكان في ذلك مفسدة عامة؛ فالحكمة إذاً ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله من ينجو، ويسلم نفسه لله من يهلك. قلت: وبعد هذا فهذا العلم عويص غامض عميق، وقد فقد العلماء به، الملهون فيه؛ ومعول أهله على الحدس والظن، وعلى بعض التجارب القديمة التي تكذب مرة وتصدق مرة؛ وبالصدق يعبر الإنسان، وبالكذب يعرى من فوائده؛ فالنقص قد دخله، والخلل قد شمله؛ وليس يجب أن يوهب له زمانٌ عزيز، فوراءه ما هو أهم منه وأجدر، وأرشد وأهدى.
    قال: هذا حسن، حدثني بالذي أفدت اليوم. قلت: قال أبو سليمان: العلم صورة المعلوم في نفس العالم، وأنفس العلماء عالمةٌ بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة. والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل. والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل. والنفس الفلكية عالمةٌ بالفعل، والنفس الجزئية علامة بالقوة؛ وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها، وتصيراً لها.
    قال: هذا في الحسن نهاية، وقد اكتهل الليل، وهذا يحتاج إلى بدء زمان، وتفريغ قلب، وإصغاء جديد. هات خاتمة المجلس. قلت له: قرأنا يوم الجمعة على أبي عبيد الله المرزباني لعبد الله بن مصعب.
    إذا استتعت منك بلحظ طرفـي حيي نصفي ومات عليك نصفي
    تلذذ مقلتي ويذوب جـسـمـي وعيشي منك مقرون بحتـفـي
    فلو أبصرتـنـي والـلـيل داج وخدي قد توسط بطن كـفـي
    ش
    عكرمه المقدسي
    عكرمه المقدسي


    عدد المساهمات : 197
    نقاط : 390
    تاريخ التسجيل : 25/08/2009
    العمر : 74
    الموقع : http://www.al-amanh.net/vb/

    الإمتاع والمؤانسة Empty رد: الإمتاع والمؤانسة

    مُساهمة  عكرمه المقدسي الجمعة سبتمبر 25, 2009 6:55 am

    ودمعي يستهل من الـمـآقـي إذاً لرأيت ما بي فوق وصفـي
    وانصرفت.
    الليلة الثالثة
    قال لي ليلة أخرى: حدثني أبو الوفاء عنك حديث الخراساني، فأريد أن أسمعه منك. قال: كنت قائماً علشية على زنبرية الجسر في الجانب الشرقي والحاج يدخلون، وجمالهم قد سدت عرض الجسر - أنتظر جوازها وخفة الطريق منها، فرأيت شيخاً من أهل خراسان ذكر لي أنه من أهل سنجان واقفاً خلف الجمال يسوقها، ويحفظ الرحال التي عليها، حتى نظر إلى الجانب الغربي فرأى الجذع عليه ابن بقية - وكان وزيراً صلبه الملك لذنوب كانت له - فقال: لا إله إلا الله، ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها وغيرها، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض!.
    قال: هكذا حدثني أبو الوفاء، ولذلك استأذنت في دفنه، وكان كلام الشيخ سبباً في ذلك.
    قال: بلغني أن أبا سليمان يزور في أيام الجمعة رسل سجستان لما ويظل عندهم طاعماً ناعماً، ويأنس بأنك معه، فمن يحضر ذلك المكان? فقلت: جماعة؛ وآخر من كان في هذا الأسبوع الماضي ابن جبلة الكاتب، وابن برمويه، وابن الناظر أبو منصور وأخوه، وأبو سليمان وبندار المغني وغزال الراقص، وعلم وراء الستارة. فقال: ما الذي حفظت من حديث عنهم، ومأثور أن يلقى إلينا منهم? فقلت: سمعت أشياء، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزاً وساعياً ومفسداً. قال: معاذ الله من هذا، إنما تدل على رشد وخير، وتضل عن غي وسوء، وهذا يلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس، واعتقد الشفقة، وحث على قبول النصيحة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمع مثل هذا وسأل عنه، وكذلك الخلفاء من بعده، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عاليةٍ أو محطوطة. فقلت وجدت ابن برمويه يذكر أشياء هي متعلقة بجانبك، ويرى أنها لو لم تكن لكان مجلسك أشرف، ودولتك أعز، وأيامك أدوم، ووليك أحمد، وعدوك أكمد. قال: ما هذا الاسترسال كله إلى ابن شاهويه? وما هذا الكلف ببهرام? وما هذا التعصب لابن مكيخا? وما هذا السكون إلى ابن طاهر? وما هذا التعويل على ابن عبدان? وما من هؤلاء أحد إلا يريش عدوه ويبريه ويضل صاحبه ويغويه. أما ابن شاهويه فشيخ إزراء وصاحب مخرقة وكذبٍ ظاهر، كثير الإيهام، شديد التمويه، لا يرجع إلى ودٍ صادق، ولا إلى عقد صحيح وعهدٍ محفوظ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة، وكان أيضاً مذموم الهيئة، فكان لا ينبس إلا بما يقويه ويحرس حاله، واليوم هو رخي اللبب، جاذب لكل سبب؛ وليس هناك كفاية ولا صيانة ولا ديانة ولا مروءة؛ وبعد، فهو مشئوم نكد، ثقيل الروح، شديد البهت قوله الإفساد وعادته تأجيل المهنأ والشماتة بالعاثر والتشفي من المنكوب.
    وأما بهرام فرجل مجوسي معجب ذميم، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ، غرضه أن يتبجح في الدنيا بجاهه، ولا يبالي أين صار بعاقبته؛ وهو يحض مع ذلك عليه في كل ما هو مديره ومدبره.
    وأما ابن مكيخا، فرجل نصراني أرعن خسيس، ما جاء يوماً بخير قط لا في رأي ولا في عمل، ولا في توسط؛ وأصحابنا يلقبونه بقفا وهو منهمك بين اللذائذ همه أن يتحسى دن الشراب في نفس أو نفسين، ثم يسقط كالجذع اليابس لا لسان ولا إنسان.
    وأما ابن طاهر فرجل يدعي للناس أنه لولا مكانته وكفايته وحسبه ورأيه ومشورته لكانت هذه الوزارة سراباً، وهذه المملكة خراباً؛ هذا مع الشر الذي في طبعه وعادته؛ فإن جرى خيرٌ انتحله، وزعم أنه من نتائج رأيه؛ وإن وقع شرٌ عصبه برأس صاحبه، وادعى أنه استبد به؛ ومع هذا فهو يعيب هذه المراءاة.
    وما أدري كيف استكفى هذه الجماعة حوله? وكيف يظاهر هو بها ويسكن إليها? وما فيهم إلا من وكده الرجس والإفساد والأخذ بالمصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء والسقيم وعلى الزكي والظنين؛ هؤلاء سباع ضارية، وكلاب عاوية؛ وعقارب لساعة، وأفاعٍ نهاشة، وقى الله هذا الإنسان الحر المبارك الكريم الرحيم، فإنه شريف النفس طاهر الطوية، لين العريكة، كثير الديانة، وهذه أخلاق لا تصلح اليوم مع الناس، قال الشاعر:
    ومن لا يذد عن حوضه الناس أو يكن له جانب يشـتـد إن لان جـانـب
    يطأ حوضه المستوردون وتغـشـه شوائب لا تبقى عليها الـنـقـائب
    وما ضاع قولهم: لا تكن حلواً فتؤكل، ولا مراً فتعاف. ليس الحذر يقي فكيف التهور، أههنا لحىً تسحب كل يوم، وطوارق تتوقع كل ليلة! والتوكل والاستسلام يلقيان بأهل الدين في طلب الآخرة؛ فأما أصحاب الدنيا وأرباب المراتب، فيجب أن يدعوا الهوينا جانباً، ويشمروا للنفع والضر؛ والخير والشر ويكون ضرهم أكثر، وشرهم أغلب؛ ورهبوت خير من رحموت.
    ولهذا قال الأعرابي:
    أنا الغلام الأعسر الخير في والشر
    والشر في أكثر
    وهذا معنى بديع، ولم يرد أن البداءة بالشر خير من الخير، وإنما اراد أني أتقي بالشر، وإذا أقبل الشر قلت له: مرحباً، وأدفع الشر ولو بالشر، والحديد بالحديد يفلح. وقد قال الآخر:
    وفي الشر نجاة حي ن لا ينجيك إحسان
    وقال ابن دارة:
    إذا كنت يوماً طالب القوم فاطرح مقالتهم واذهب بهم كل مذهـب
    وقارب بذي حلم وباعد بجـاهـل جلوب عليك الشر من كل مجلب
    فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا ليستمسكوا مما يريدون فاحـدب
    وإن حلبوا خلقين فاحلـب ثـلاثة وإن ركبوا يوماً لك الشر فاركب
    وقال الحجاج بن يوسف أبو محمد - وهو من رجالات العرب وقد قهر العجم بالدهاء والزكانة - لو أخذت من الناس مائة ألف، كان أرضى عني من أن أفرق فيهم مائة ألف. كان الناس بالأمس مزمومين مخطومين، يقوم كل واحد بنفسه على نفسه، ويتهم غده لما جناه في أمسه؛ لأن الملك السعيد ساسهم، وقوم زيغهم، وقلم أظافرهم؛ وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر، وبالكفاية عن القلق والضجر؛ وتقدم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير؛ وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به، وإحسانه إليهم بمكانه، فسلبوه فتنفس خناقهم، واتسع نطاقهم، فامتطى كل واحد هواه، ويوشك أن يقع في مهواه.
    قال: وههنا أشياء أخرى غير هذه، ولكن من يسمع ويقبل? ومع هذا فالأمور صائرةٌ إلى مصايرها، كما أنها صادرة عن مصادرها.
    فقال له ابن جبلة: ما عندي إلا أن الوزير - أبقاه الله - عارفٌ بهم ومستبطن لأمرهم؛ مع العشرة القديمة، والملابسة المتصلة، والخبرة الواقعة؛ ولكن لابد لمن كان في محله ورقعته من جماعةٍ يقربهم، ويرجع إليهم ويسمع منهم، وينظر بأعينهم، ويصغي بآذانهم، ويتناول بأيديهم. فقال له مجاوباً: إن كان عارفاً بهم، ومستبطناً لأمرهم، وخبيراً بشأنهم؛ فلم سلطهم وبسطهم، وحدد أنيابهم، وقوى أسنانهم، وفتح أشداقهم، وطول أعناقهم، وقطع أرباقهم؛ وأبطرهم فأسكرهم، حتى صاروا يجهلون أقدارهم، وينسون ما كانوا فيه من القلة والذلة? هلا رتب كل واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظن الفاسد، ولم يضحك في وجوههم، ويغضي على جنايتهم? أما بلغه أن ابن يوسف قال: تشبثه بابن شاهويه لأنه قد أعده للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر? وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه وتقديمه لابن الحجاج للسخف، ولهجه بابن هرون للهزء واللعب.
    قال له ابن جبلة: من أراد أن يحسن القبيح عند رضاه، ويقبح الحسن عند سخطه فعل، ولا يخلو أحد تهب ريحه، ويعلو شأنه، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف، ومدخل ومرجف، على هذه الأمور بنيت الدار، وعليها جرت الأقدار، إن كنت تنكر هذا الرهط، فاعرف له الرهط الآخر؛ فإنك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه.
    قال: من هم?. قال: أبو الوفاء المهندس، وابن زرعة المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، ومسكويه، والأهوازي والعسجدي فأين هؤلاء الغامطة? قومٌ همهم أن يأكلوا رغيفاً ويشربوا قدحاً، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحاً، وهيبته تعوقهم عن ذكر شيء في الدولة من تلقائهم إلا أن يكون شيء يتعلق بهم على معنى خاص؛ فهو ينود هكذا وهكذا حتى يبلغ منهم ما قدر عليه.
    فلما سمع الوزير هذا كله قال: سألقي إليك في جواب هذه المسألة ما تخدمني به إن لاقيتهم في مجلس آخر على وجه يخفي أنك له ملقن محمل كأنك ساهٍ عنه غير حافل به؛ وقد تقطع الليل، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان، بعد استيفاء حمام؛ ثم أنشدت قول الشاعر:
    إني لأصفح عن قومي وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ المثر
    ثم قال: ما المئر? قلت: هي الضغائن التي ذكرها في حشو البيت، واحدها مئرةٌ، كأنه أراد وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ الضغائن فرجع من لفظ إلى لفظ ضرورة القافية لما كان معناهما واحداً؛ قال: لمن هذا البيت? قلت: لا أحفظ اسم شاعره، ولكن أحفظ معه أبياتاً. قال: هاتها؛ فأنشدت أول ذلك:
    يا أيها الرجل الـمـزجـى أذيتـه هل أنت عن قولك العوراء مزدجر
    إني إذا عد مـبـطـاءٌ إلـى أمـد لا يستطيع حضاري المقرف البطر
    لاقى قناتي مصـراراً عـشـوزنةً لا قادح قد تبـغـاهـا ولا خـور
    إني لأصفح عن قومي وألبسـهـم على الضغائن حتى تبرأ الـمـئر
    قال: اكتبها. قلت: أفعل، وانصرفت، فما أعاد علي بعد ذلك شيئاً مما كان.
    الليلة الرابعة
    قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى: كيف رضاك عن أبي الوفاء? قلت: أرضى رضاً بأتم شكر وأحمد ثناء؛ أخذ بيدي، ونظر في معاشي، ونشطني وبشرني، ورعى عهدي، ثم ختم هذا كله بالنعمة الكبرى، وقلدني بها القلادة الحسنى، وشملني بهذه الخدمة، وأذاقني حلاوة هذه المزية، وأوجهني عند نظرائي.
    قال: هات شيئاً من الغزل. فأنشدته:
    كلانا سواء في الهوى غير أنها تجلد أحياناً وما بي تـجـلـد
    تخاف وعيد الكاشحين وإنـمـا جنوني عليها حين أنهي وأبعد
    ثم قال: غالب ظني أن نصراً غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك؛ فإن ذلك عبد، ولا جرأة له على مثل هذا الندود والشذوذ، فقد قال لي القائل: إنك من خلصانه.
    فقلت: والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال، إنما كنا نلتقي على زنبرية باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء؛ وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالري سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس وجرجان، في المذلة الدائمة والحال المربوطة؛ ولو نبس لي بحرف من هذا، أو كنت أشعر بأقل شيء منه، لكنت أقول لأبي الوفاء قضاءً لحقه، ووفاءً بما له في عنقي من مننه وخوفاً من هذا الظن بي، وقصوراً عن اللائمة لي.
    قال: أفما تعرف أحداً تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه? قلت: ما رأيته إلا وحده؛ وكم كان زمان التلاقي? كان أقل من شهر، أفي هذا القدر يتوكد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور? هذا بعيد. قال: هذا المتخلف كنت قد قربته ورتبته، ووعدته ومنيته؛ وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه، والإحسان إليه، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت، حتى أزيده نباهة وتقديماً، فترك هذا كله وطوى الأرض كأنه هارب من حبس، أو خائف من عذاب. ويقال في الأثر: إن بعض الصفيحيين قال: لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ما أكثر من يفر من هذه الكرامة، ويقوى - على ترفٍ جمٍ - على الهوان، ويصبر على البلاء، ويقلق في العافية! إن السجايا المختلفة، وإن الطباع لمتعادية؛ قلما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن.
    قلت: كذلك هو.
    قال: حدثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجه فيه? ولقد أطلت التعجب من هذا وكررته على أبي الوفاء.
    فقلت: منعني من ذلك ثلاثة أشياء: أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشد للضد هوناً من مصاحبة الضد، لأنه سوداوي وجعد. والآخر أنه قيل: ينبغي أن تكون عيناً عليه، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقاً بحالي، فكيف إذا قرنت برجل باطلي لو بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق. والآخر أني كنت أفد مع هذا كله على ابن عباد - وهو رجل أساء إلي وأوحشني، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانياً؛ وكنت أكره ذلك، وما كنت آمن ما يكون منه ومني، والمجنون المطاع، مهروب منه بالطباع.
    وبعد، فليس لي حاجةٌ في مثل هذه الخدمة، لأن صدر العمر خلا مني عارياً من هذه الأحوال، وكان وسطه أضعف حملاً، وأبعد من القيام به والقيام عليه.
    فقال: ما كان عندي هذا كله.
    قال: إني أريد أن أسألك عن ابن عباد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته، وعن علمه، وعن علمه وبلاغته، وغالب ما هو عليه، ومغلوب ما لديه؛ فما أظن أني أجد مثلك في الخبر عنه، والوصف له، على أني قد شاهدته بهمذان لما وافي، ولكني لم أعجمه، لأن اللبث كان قليلاً، والشغل كان عظيماً، والعائق كان واقعاً.
    فقال: إني رجل مظلوم من جهته، وعاتبٌ عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفاً، وانتصفت منه مسرفاً، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عارياً منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها، فإن جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
    إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى ولا يعلم الإنسان ما في المغيب
    قال: دع هذا كله، وانسخ لي الرسالة من المسودة، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها.
    وبعد، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه، أو بما كسب هو بيديه من خير وشر؛ وهذا غير منكر ولا مكروه، لأمر الله تعالى، فإنه مع علمه الواسع، وكرمه السابغ، يصف المحسن والمسيء، ويثني على هذا وينثو على ذاك؛ فاذكر لي من أمره ما خف اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له.
    قلت: إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان؛ قد نتف من كل أدب خفيفٍ أشياء، وأخذ من كل فن أطرافاً؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي؛ ويقول الشعر، وليس بذاك؛ وفي بديهيته غزارة. وأما رويته فخوارة؛ وطالعه الجوزاء، والشعري قريبة منه؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة، والناس كلهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته؛ شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب؛ بذيء اللسان؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل، مغلوبٌ بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسودٌ حقودٌ حديد، وحسده وقفٌ على أهل الفضل، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته؛ وقد قتلا خلقاً، وأهلك ناساً، ونفى أمة، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتي إليه سهل؛ وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلم البلاغة منه؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان؛ فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص.
    فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه؛ فهذا هذا.
    ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهن، وزادت قريحتك، وتنقحت قوافيك؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقاً، والمحمر جواداً؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية؛ وعطية هنية؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً.
    قال يوماً: من في االدار? فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت؛ فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما، ولا تجزع من تأففي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى السجن؛ وأذن للرجلين حتى وصلا؛ فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً؛ ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئاً فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني؛ وعلى كل حال فاسمع، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:
    يأيها الصاحب تاج العلا لا تجعلني نهزة الشامت
    بملحدٍ يكنى أبا قـاسـم ومجبر يعزى إلى ثابت
    قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسىء: قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقأ غيظاً، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً. ثم حدثني الخادم الحديث بنصه.
    والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة؛ ولا قيل له: أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت، لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا، وصدق مولانا، ولله دره، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله، ولا سمعنا من يقاربه، من ابن عبد كان مضافاً إليه? ومن ابن ثوابة مقيساً عليه? ومن إبراهيم بن العباس الصولي إذا جمع بينهما? من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما، ومتح برشائهما، وقدح بزندهما? قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى ابي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الإسكافي في الموازنة، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات؛ وعلى ابن جرير في التفسير، وعلى أرسطوطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجزء، وعلى ابن سيرين في العبارة، وعلى أبي العيناء في البديهة، وعلى ابن أبي خالد في الخط، وعلى الجاحظ في الحيوان، وعلى سهل بن هرون في الفقر، وعلى يوحنا في الطب؛ وعلى ابن ربن في الفردوس، وعلى عيسى بن دأب في الرواية، وعلى الواقدي في الحفظ، وعلى النجار في البدل، وعلى ابن ثوابة في التفقه، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزبد في النوادر، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى، وعلى بني برمك في الجود، وعلى ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى ابن المحيا خالد بن سنان العبسي في دعواه؛ هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة:
    الألمعي الذي يظن بك الظن كأن لقد رأى وقد سمـعـا
    قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه.
    فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول: ولا كذا؛ ثمرة السبق لهم، وقصرنا أن نلحقهم، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم. وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل، ويلوي شدقه، ويبتلع ريقه، ويرد كالآخذ، ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتقابل ويتمايل؛ ويحاكي المومسمات، ويخرج في أصحاب السماجات؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور، واستخراج ما في الصدور، واعتبار الأسباب؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل، ولا خالص الحمق؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق؛ والكامل عزيز، والبرىء من الآفات معدوم؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب، وللشفاء أرحي، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة، وأخلاقاً مدخولة، استطب لها عقله، وتطبب فيها بعقله، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفي ما أمكن نفيه، وأصلح ما قبل إصلاحه، وقلل ما استطاع تقليله؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه.
    وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلة سماعه من الناصح فيه؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً، وعجباً وتيهاً وصلفاً؛ واندراءً على الناس، وازدراءً للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد؛ وفي الجملة، صغار آفاته كبيرة، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال: ما صدر هذا البيت? فأنشدته الأبيات، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية، وكان يقال له عروة الصعاليك، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً:
    ذريني للغنى أسعى فإنـي رأيت الناس شرهم الفقير
    وأبعدهم وأهوانهم عليهـم وإن أمسى له حسبٌ وخير
    ويقصيه النـدى وتـزدريه حليلته وينهره الصـغـير
    وتلقى ذا الغنى وله جـلالٌ يكاد فؤاد صاحبه يطـير
    قليلٌ ذنبه والـذنـب جـمٌ ولكن الغني رب ٌ غفـور
    فقال: لاشك أن المسودة جامعةٌ لهذا كله. قلت: تلك تجزع في دست كاغدٍ فرعوني. فقال: أجد تحريرها، وعلى بها، ولك الضمان ألا يراها إنسان، ولا يدور بذكرها لسان.
    قلت: السمع والطاعة. قال: قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد? وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي? قلت: قد سألت جماعة عن هذا، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق، وكنت من الحكم عليه وله أبعد.
    قال: صف هذا؛ قلت: سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال: يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين. وقال علي بن القاسم: هو مجنون الكلام، تارةً تبدو لك منه

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين نوفمبر 25, 2024 7:56 am