قراءة مهمة جديدة عن الكفر والكفار والتكفير والكافرون والمكفرون واضحة لا لبس فيها
الكفر: رحلة جديدة مع مصطلح قديم *
أول ما يلفت نظر من يريد التعرف على الإسلام هو نظرة الإسلام إلى الغير، فيبدأ بقراءة ترجمة لمعاني القرآن الكريم، ويجد تكرار لفظ "الذين كفروا" "والكافرون" "والكفار"... إلخ، في القرآن الكريم في سياق العذاب والوعيد، والقتال أحيانًا، وهذا المصطلح الذي يترجمه كثير من المترجمين بكلمات تشير إلى غير المسلمين بصفة عامة، والتي تعكس معنى آخر غير ما يعكسه لفظ "الكفر" في اللغة العربـيـة، فيظن بسبب الترجمات غير الدقيقة أن هذا اللفظ يصدق على كل من ليس على دين الإسلام، فلا يزيده تعرفه على الإسلام إلا بعدًا عنه ونتيجة لعدم وضوح هذا المعنى. وبالتالي من المهم دراسة موضوع لفظ الكفر الوارد في القرآن الكريم من حيث دلالاته وإطلاقاته، من أهم الموضوعات التي كثيرًا ما تطرح في مناقشات ومجادلات، ومع اختلاف سياق كل آية قد يجد الإنسان نفسه مضطرًا بشكل ما إلى التأويل أو استنتاج بعض المعاني التي قد تكون بعيدة عن المعنى الذي أراده الله.
وتبدو الطريقة المثلى لبحث المصطلحات القرآنية أن تكون ضمن إطار يجعلها واضحة وجلية وهو ما نجده في منهجية علم التفسير الموضوعي الذي أشار إليه العالم الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– في كتابه التفسير الموضوعي وأشار إلى أهميته، فقال: "وهناك معنى آخر للتفسير الموضوعي لم أتعرض له، وهو تتبع المعنى الواحد في طول القرآن وعرضه، وحشده في سياق قريب، ومعالجة كثير من القضايا على هذا الأساس. وقد قدمت نماذج لهذا التفسير في كتابي (المحاور الخمسة للقرآن الكريم) و (نظرات في القرآن) ولا ريب أن الدراسات القرآنية تحتاج إلى هذا النسق الآخر، بل يرى البعض أن المستقبل لها!"[1]
سيرة مصطلح الكفر عند العرب وفي القرآنوالمتأمل في معنى مادة "كفر" في الشعر الجاهلي والمعاجم العربية، يجد معنى هذا المصطلح يدور حول معنى عام واحد تتفرع منه معان وفروع تنتمي كلها إلى الأصل الواحد والشجرة الواحدة، فتجده مثلا يدور حول التغطية فيقال "كفر الشيء وكفّره: غطّاه، يقال: كفر السحاب السماء... وكفر الليل بظلامه، وليل كافر... وكفرت الريح الرّسم، والفلاح الحب، ومنه قيل للزرّاع: الكفار"[2].
والقرآن الكريم استخدم لفظ الكفر وما يشتق منه في معان متعددة تخرج كلها من أصل واحد وتنبت من فرع التغطية، فمن استخدام اللفظ للزارع جريًا على استخدام العرب له، فقد كان يقال للزارع "كافر" لأنه يضع الحب في الأرض ويغطي عليه: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" [الحديد: 20]، ويأتي هذا اللفظ ليعني التبرؤ من شخص أو من عمله ومناصرته، وإلغاء الصلة أو الولاية بينه وبينه، قال تعالى: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [إبراهيم: 22]، ويرد هذا اللفظ ليعبر عن تكفير السيئات.
وصف أهل الكتاب، هل هو على إطلاقه؟والناظر لآيات القرآن الكريم التي تحدثت عن أهل الكتاب، يجد أن القرآن الكريم نعى على أهل الكتاب كفرهم في أكثر من موضع وفي كل موضع يذكر سبب هذا الحكم والمبررات التي ساقها رب العالمين ليحكم على مثل هؤلاء بالكفر وتغيير ما أنزل الله إليهم من حق، وهذا السبب يتفق مع المعنى اللغوي لمصطلح الكفر وهو "تغطية ما كان ظاهرا" فهؤلاء الذين حكم الله عليهم بالكفر من "أهل الكتاب" صدق عليهم هذا الحكم بهذا المعنى؛ لأنهم كانوا يعرفون الحق الذي عندهم، وغطوا عليه ومن الأمثلة على ذلك تغطيتهم وإنكارهم لحكم الرجم في التوراة وتبديل هذا الحكم بحكم آخر ولذلك نزلت آيات القرآن الكريم تنعى عليهم هذا وتحكم عليهم بالكفر وعلى كل من فعل مثلهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } المائدة44، ومن هذه الآيات أيضا ما حكمت على الذين هادوا بالكفر: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء46، فحقت عليهم اللعنة بما بدلوا وغيروا من كلام الله وبما عاندوا حين قالوا سمعنا وعصينا وطعنوا في الدين وهم يعلمون أنه الحق.
كما أن هناك ثلاث آيات، منها آيتان نزلتا تحكمان بالكفر على الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وآية أخرى تحكم بالكفر على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وهذا الحكم يصدق على فئة معينة من خلال ما قررناه من معنى اسم الموصول "الذي" الذي يدل على أقوام بأعينهم ويُـعَـدّى الحكم على غيرهم ممن شابههم في أفعالهم، وهذا الحكم ينطبق أولا على من اخترع هذا القول: إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة، وعلى من تابعهم ممن بلغه كذب ادعائهم، ذلك أنه من الثابت تاريخيا ما حدث في مجمع نيقية سنة 325م الذي اجتمع فيه النصارى ليتشاوروا في أمر عيسى عليه السلام، وكان منهم من قال: إنه عبد الله ورسوله، فاتفق الذين ذهبوا إلى الأقوال الأخرى على تعذيب الذين قالوا إن المسيح هو عبد الله ورسوله وحرمانهم وطردهم[3]، ولقد علق القرآن الكريم على هذا في موضعين بعد أن ذكر قصة عيسى عليه السلام في سورة مريم وفي سورة الزخرف قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} مريم37، وقال أيضا: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }الزخرف65، وهاتان الآيتان تأتيان بعد ما ذكر الله القول الحق في عيسى عليه السلام: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ{34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{36} مريم. {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ{59}... إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{64} الزخرف وهذا يؤيده ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية: (وإذا كان كذلك فنحن نشهد لمن كان مؤمنا بموسى متبعا له أنه مؤمن مسلم مستحق للثواب، وكذلك من كان مؤمنا بالمسيح متبعا له ونشهد لمن قامت عليه الحجة بموسى فلم يتبعه كآل فرعون أنهم من أهل النار، وكذلك من قامت عليه الحجة بالمسيح الذين قال الله فيهم:" قال إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدًا من العالمين" المائدة 115، والذين قال فيهم: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين"[4]، وأما من بعد عهده بالمسيح وبلغته بعض أخباره دون بعض أو بموسى وبلغه أخباره دون بعض فهؤلاء قامت عليهم الحجة بما بلغهم من أخبارهم دون ما لم يبلغهم من أخبارهم وإذا اختلفوا في تأويل بعض التوراة والإنجيل فمن قصد الحق واجتهد في طلبه لم يجب أن يعذب وإن كان مخطئا للحق جاهلا به ضالا عنه كالمجتهد في طلب الحق من أمة محمد، وعلى هذا فإذا قيل إن الحواريين أو بعضهم أو كثيرا من أهل الكتاب أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن المسيح نفسه صلب كانوا مخطئين في ذلك ولم يكن هذا الخطأ مما يقدح في إيمانهم بالمسيح إذا آمنوا بما جاء به ولا يوجب لهم النار فإن الأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح وعندهم أنها مأخوذة عن الأربعة مرقس ولوقا ويوحنا ومتى ولم يكن في الأربعة من شهد صلب المسيح ولا من الحواريين بل ولا في أتباعه من شهد صلبه وإنما الذين شهدوا الصلب طائفة من اليهود فمن الناس من يقول إنهم علموا أن المصلوب غيره وتعمدوا الكذب في أنهم صلبوه وشبه صلبه على من أخبروهم.... وقد ثبت في الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي: "قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"[5] فأخبر أنه مقتهم إلا هؤلاء البقايا، والمقت هو البغض بل أشد البغض؛ ومع هذا فقد أخبر في القرآن أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا فقال: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وقال: "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى" فدل ذلك على أن المقتضي لعذابهم قائم ولكن شرط العذاب هو بلوغ الرسالة ولهذا قال: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: "ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب". وفي رواية "من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"[6])[7].
فلو تصورنا أن أحدًا من أهل الكتاب لم تصله الحقيقة، أو لم يبلغه الإسلام بلاغًا صحيحًا فلا يؤاخذ إلا بما بلغه من الحق.
القرآن إذن والإسلام لا يحكم على كل أهل الكتاب الكفر لأنهم مخالفون للإسلام فقط بل لأنهم علموا الحق وأنكروه وغطوه، هذا الحق الذي هو مذكور في كتبهم: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ" الزمر 32.
وعلى هذا فإن من كان من أهل الكتاب من اليهود يعلم الحق، ويعلم أحكام التوراة التي أنزلها الله وغير وبدل كما فعلوا أيام رسول الله، ومن كان من النصارى يعلم الحق في الإنجيل ويعلم أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم لم يمتثل لأمر الله فهذا هو الذي يحكم عليه بالكفر لأنه بدل وغير في أوامر الله.
غير أن تعبير القرآن بلفظ "أهل الكتاب" شامل لمن يعرفون كتبهم جيدا ويعرفون الحق الذي جاء فيها، كما يشمل من لا يعرفون من كتابهم الأصلي شيئا، إذ خضعوا لموروثات حضارية وثقافات طمست عليهم الأمور وغيرت من عقيدتهم وأبعدتهم عن الحق، قال تعالى عنهم: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ{78} "[8] وقال عن الأولين " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ{79}"[9] فهؤلاء الذين ضُـلِّلوا من فعل المحرفين نعُدُّهم جاهلين حتى يبلغوا بالحق الذي يقنعهم، فإذا كان القرآن الكريم يحثنا على إسماع المشركين كلام ربهم وتأمينهم بعد سماعهم إلى أن يصلوا لديارهم كما في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }[10] فهؤلاء أولى بهذا الحكم من المشركين ولا ينبغي أن نحكم عليهم إلا بعد أن نوصل لهم كلمة الحق حتى تلزمهم الحجة، ولذلك يقول الله تعالى: "وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ{51} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ{52}" القصص، ذلك أن الحكم بالكفر حكم بالظلم يترتب عليه الحكم بلعنة الله والخلود في النار، فلا بد أن يتأكد من يحكم بذلك أن من حكم عليه قد أبى وجحد ما هو بين واضح عن طريق الجدال بالتي هي أحسن كما أمر بذلك رب العزة، وسيلة واجبة على الدعاة حين قال: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[11] وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[12].
ومن الروايات التي توضح لنا صفات بعض أهل الكتاب ما يلي: روت صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها ما دار بين أبيها وبين أخيه أبي ياسر عند قدوم النبي إلى المدينة: سمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله، قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال:عداوته والله ما بقيت.[13]
وصف المشركين بالكفرإن القرآن الكريم لم يكن لينعى على الكافرين كفرهم لمجرد أنهم عرفوا الحق ولم يتبعوه، بل لأنهم عرفوا الحق وكتموا أنه حق وأخبروا غيرهم بأنه باطل وجاهدوا هذا الحق بكل الوسائل ليصدوا الناس عن هذا الحق ويشوهوه في أعينهم، وإلا فما الضرر الذي يقع على الإسلام من كفر أحدهم وعدم اتباعه للحق.
ومن خلال استعراض صفات بعض المشركين الذين وصفوا بالكفر في القرآن الكريم يتضح لنا أن القرآن وصف هؤلاء بالكفر وصفًا دقيقًا لما كان يعتمل في صدورهم من كتمان للحق ورفض له حتى مع وضوحه أمام أعينهم، وهذا مثال على ذلك: طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك! قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن؟ والله إني لأعلم أنه لصادق قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عن بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى، لا أتبعه أبدا فنزلت: (وختم على سمعه وقلبه......)[14]، ولقي النبي أبا جهل فصافحه فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ فقال والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا[15]، والتقى الأخنس وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمدًا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش[16].
هذه مجرد نماذج لهؤلاء الذين كانوا يعرفون الحق معرفة واضحة، ولكنهم آثروا الكفر المبني على العناد والاستكبار لا عن جهل وعدم معرفة أو شك.
معنى الكفر وعلاقته ببلوغ الدعوةمما سبق أن بينا من معنى الكفر في المعاجم العربية، ومن استعراضنا لصفات الذين وصفوا بالكفر في القرآن الكريم، يتضح لنا جليًا أن المعنى الذي كان يستخدمه العرب للفظ "كفر" هو تغطية شيء كان ظاهرًا وواضحًا، ومما نرى من صفات وسلوك الذين وصفهم القرآن بالكفر نجد أن هؤلاء كانوا يعلمون الحق ويوقنون من قلوبهم أن هذا الدين حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكذب، ولكن لأن هذا الدين مخالف لأهوائهم وشهواتهم المادية والمعنوية فإنهم كانوا ينكرون تصديقهم لهذا الدين، وليتهم وقفوا عند هذا الحد بل وسخروا أموالهم وألسنتهم وأيديهم لصد الناس عن هذا الدين وتعذيب وإيذاء من يقدرون عليه ممن تبع هذا الدين.
ومن كل هذا نخرج بأن معنى الكفر هو أن يبلغ الحقُ شخصًا بكل الأدلة والبراهين الملزمة فلا تبقى له حجة أو شبهة فيسكت عن معارضة هذا الدين ويبهت فلا يستطيع الرد، ثم ينكر بعد هذا صدق هذا الدين، فهذا هو مفهوم الكفر، ولذلك يربط القرآن الكريم في آيات كثيرة بين الحكم بالكفر وبلوغ الدعوة ومعرفة الحق والهدى فيقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 32 ) وجعل الله من الظلم أن يعرف الإنسان الحق ولا يتبعه يقول: (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 86 ) بل ويصف الذين كذبوا الرسل من قبل بنفس الصفة فيقول: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (التغابن:5،6 ) ويقول أيضًا: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (غافر: 22 ) ويقول: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (الزمر: 32 ) ويقولوَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أو كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (العنكبوت: 68) ويصف كفر اليهود فيقول: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89) ويقول: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) (الأنعام: 130) ويقول: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر: 71).
هذا الربط المتكرر في القرآن الكريم يدلنا على حقيقة مهمة، أن القرآن لا يحكم على أحد بالكفر إلا بقدر ما عرف من الحق وأنكر وبقدر ما قامت عليه الحجة ثم أبى أن يؤمن، ثم هو عند هذا الحد ليس عدوًا إلا لنفسه ولا يعاديه المسلمون إلا إذا اعتدى عليهم أو خان عهده معهم أو آذاهم، وبهذا المفهوم ينبغي ألا يفهم أن القرآن يحكم على كل من يخالف الإسلام بالكفر بل مناط الحكم بالكفر هو بلوغ الدعوة والحق بلاغًا واضحًا ثم رفض الإيمان والتصديق دون شبهة أو حجة، فهذا هو الكافر الذي حكم عليه القرآن الكريم بالعذاب الأليم في آيات عدة (وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 104) ولقد نفى الله سبحانه وتعالى العذاب عن من لم تبلغه الدعوة فقال تعالى: (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) فبين سبحانه وتعالى أنه عادل لا يظلم أحدا فلا يحمل نفسا وزر أخرى ولا يعذب من لا تبلغه الدعوة ويقول أيضًا: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) (الأنعام: 131) (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: 59).
أجل: إن الله الهادي، الله النور، الله المقسط، لا يدع عباده حيارى من غير بيان يبصرون به مواقع أقدامهم وأمل صادق يبعث الحياة في مستقبلهم ويملأ بالنشاط يومهم؛ ولذلك أرسل أنبياءه لهم، وأقام في كل أمة من يشق لها الحجب، ويبعث في أفئدتها الضياء (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24) وربما لا نعرف أسماء أولئك الدعاة الذين سيشهدون على الناس يوم الحساب غير أننا نوقن بأن الله لا يناقش الحساب أحدًا يجهل أصل الرسالة وفحوى الدعوة لأن عذره قائم (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) والكفر الحقيقي في نظرنا جحد الحق بعد ما اتضح للبصيرة جوهره، وتألق أمامه إشعاعه، ومن ثم فالهمّـل الذين لم تبلغهم دعوة الحق بأسلوب يحمل في طياته دواعي قبوله، يسمون كفارًا على المجاز، وإلا فهم جهال فحسب.. وقد كان الأنبياء ومن خلفهم على رسالاتهم نماذج جيدة في التحدث عن الله بألسنتهم، وكانوا قبل ذلك وبعده نماذج أجود في جذب الناس إلى الله بطيب أنفسهم، ونقاء معدنهم، وصفاء حيرتهم، ووصولهم في مدارج الكمال الإنساني إلى ذروة تزرع الإعجاب في القلوب وتذر الأتباع عشاقا لشمائلهم"[17].
يقول صاحب المنار: "وقال شيخنا: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة [بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) بلاغًا صحيحًا وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادًا أو تساهلاً أو استهزاءً نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن]" [18].
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: "بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:
صنف: لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاُ فهم معذورون.
وصنف: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.
وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضا منذ الصبا أن كذابا ملبسا اسمه محمد ادعى النبوة... فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر... وأما من سائر الأمم فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة... فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه وتولى ولم ينظر فيه ولم يتأمل ولم يبادر إلى التصديق فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين" [19].
يقول الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– بعد أن قسم الناس إلى ثلاثة أقسـام، مؤمن وكافر وجاهل: ".. والكافر هو الذي عرضت عليه هذه الحقيقة عرضًا لا يشوبه لبس ولا يخالطه تحريف ولا تشويه، فعقلها كما جاءت من عند الله، ومع ذلك آثر جحدها، واختار إنكارها، ورفض الإذعان لها، مع استطاعته أن يهدي قلبه، ويرضي ربه، فذلك كافر نجزم بأنه هالك بائر، ((ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبـط أعمالهم)) محمد 28.... أما الجاهل فهو رجل لم تبلغ دعوة الحق مسامعه ليستجيب لها أو يرتد عنها، فهو يعيش حسـب ما قيض له من أفكار، أو ما ارتبط به من وراثات ونحن إذا تأملنا في هذا الصنف من الناس نجدهم أقساما شتى بين رعاع وخاصة، وبين أذكياء وهمل وبين كتابيين ووثنيين.. إلخ، وإصدار حكم جامع أو إيضاح مصير مشترك يضم أولئك جميعًا أمر عسير... ومن ثم قلنا: إن هؤلاء الذين لم توقظهم من غفواتهم النفسية والعقلية دعوة الإسلام لا يعدون كفارًا بها، كيف وهم لم يوصل لهم القول، كي يدخلوا في نطاق الآية {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} (القصص51) وأغلب الظن أن وزر هؤلاء يقع على الأمة الإسلامية، الأمة التي فرطت في رسالتها وتنكرت لمواريثها، وحرمت العالم من النور الذي شرفها الله به، انظر إلى قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)[20] هذه الآية تبين حكم الله فيمن يجهل دينه. فإنه لما احتدم النزاع بين الإسلام الواضح الوفي المسالم، وبين ناكثي العهود وبغاة السوء من خصومه المتربصين به، وشاء الله عز وجل أن ينزل هؤلاء على قواعد الأدب الصارم، وأن يلغي المعاهدات التي طالما عبثوا بها.. لم يجعل العقاب يتناول الجميع، فمنهم خالو الذهن من العوام، ومن المخدوعين المغرر بهم، أو الجهال حقيقة الدعوة وإن بلغهم شيء عنها، الواحد من هؤلاء يجب أن يسمع كلام الله كما نزل من عنده، دون تحريف ولا تزيد ولا نقص، فإذا وعاه لم نكلفه فورًا بالإيمان، بل يجب أن نوصله إلى المكان الذي يملك فيه جأشه، ويطمئن فيه على نفسه وحرماته، ويبني حكمه على ما يعرض عليه وهو في حرية وعافية.. ذلك أن هذا وأمثاله معذورون في بعدهم عن الإسلام {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}، فإن آمن بعد هذه الفرص المتاحة، فهو منا، وإن كفر واعتزل تركناه، وإن كفر واعتدى قاتلناه. إننا لا نشتري خصومة من يجهلنا، ولا نعتبر علينا من ينأى بكفره عنا "[21].
والحقيقة أن مصطلح الكفر كان أكثر اتضاحًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده في زمن صحابته الكرام، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته قاموا بدعوة الناس إلى الله بكل الوسائل وتركوا دين الله أمام أعين الناس أوضح من نور الشمس، فكانوا نماذج عملية لما يتكلمون به، فكان هذا الدين واضحًا أمام كل الناس بكل ما يحتاجونه من أدلة وبراهين، ولم يكن لأحد عذر في الإعراض عن هذا الدين إلا الكفر الناتج عن الاستكبار والحسد وإنكار الشمس في رابعة النهار، وليس ذلك الناتج عن الجهل، وما بدأ هذا المصطلح يصبح مضطرب المعنى في أذهان المسلمين، إلا عندما ضعف المسلمون في تطبيق دين الله على أنفسهم، وبالتالي -ولأن فاقد الشيء لا يعطيه– لم يستطيعوا أن يبلغوا دين الله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وبقدر بعدهم عن هذا الدين بقدر بعدهم عن المفاهيم الصحيحة التي جاء بها هذا الدين ومنها مفهوم الكفر.
باحث ومترجم وإمام وخطيب
<A id=01 name=01>[1] الغزالي، محمد، نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم، صـ 3، القاهرة، بيروت، دار الشروق، 2000م، 1420هـ.
[2] جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، الطبعة الثالثة 1985م، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج2 مادة كفر.
[3] يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، دراسة مقارنة للمسيحية، دكتور رؤوف شلبي،ص 215
[4] سورة آل عمران آيات 55،56، 57
[5] رواه مسلم
[6] رواه الشيخان
[7] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، 4 أجزاء، قدم له وأشرف على طباعته علي السيد صبح المدني، المؤسسة السعودية، القاهرة، 1964، الجزء الأول، صـ 312، وما بعدها.
[8] سورة البقرة آية 78
[9] سورة البقرة آية 79
[10] سورة التوبة آية 6
[11] سورة النحل آية 125
[12] سورة العنكبوت آية 46
[13] البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 212.
[14] تفسير القرطبي جـ 16، صـ 170، دار الشعب، القاهرة.
[15] تفسير ابن كثير ج:2 ص:130
[16] تفسير ابن كثير ج:2 ص:131
[17] محمد الغزالي، نظرات في القرآن، ص 75.
[18] تفسير المنار – الجزء الأول – صــ 140 مطبعة المنار
[19] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة / أبو حامد الغزالي /تحقيق الدكتور / سليمان دنيا 1961 ص 96 97.
[20] التوبة : 6
[21] انظر: مع الله، دراسات في الدعوة والدعاة، ص 62 – 65 دار الكتب الإسلامية - القاهرة
*أصل الموضوع رسالة للماجستير حصل عليها الباحث من كلية اللغات والترجمة، قسم اللغة الألمانية، شعبة الدراسات الإسلامية بعنوان: مصطلح الكفر معانيه وإطلاقاته دراسة تحليلية من خلال نصوص القرآن الكريم - بتاريخ 16 أبريل 2007
الكفر: رحلة جديدة مع مصطلح قديم *
أول ما يلفت نظر من يريد التعرف على الإسلام هو نظرة الإسلام إلى الغير، فيبدأ بقراءة ترجمة لمعاني القرآن الكريم، ويجد تكرار لفظ "الذين كفروا" "والكافرون" "والكفار"... إلخ، في القرآن الكريم في سياق العذاب والوعيد، والقتال أحيانًا، وهذا المصطلح الذي يترجمه كثير من المترجمين بكلمات تشير إلى غير المسلمين بصفة عامة، والتي تعكس معنى آخر غير ما يعكسه لفظ "الكفر" في اللغة العربـيـة، فيظن بسبب الترجمات غير الدقيقة أن هذا اللفظ يصدق على كل من ليس على دين الإسلام، فلا يزيده تعرفه على الإسلام إلا بعدًا عنه ونتيجة لعدم وضوح هذا المعنى. وبالتالي من المهم دراسة موضوع لفظ الكفر الوارد في القرآن الكريم من حيث دلالاته وإطلاقاته، من أهم الموضوعات التي كثيرًا ما تطرح في مناقشات ومجادلات، ومع اختلاف سياق كل آية قد يجد الإنسان نفسه مضطرًا بشكل ما إلى التأويل أو استنتاج بعض المعاني التي قد تكون بعيدة عن المعنى الذي أراده الله.
وتبدو الطريقة المثلى لبحث المصطلحات القرآنية أن تكون ضمن إطار يجعلها واضحة وجلية وهو ما نجده في منهجية علم التفسير الموضوعي الذي أشار إليه العالم الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– في كتابه التفسير الموضوعي وأشار إلى أهميته، فقال: "وهناك معنى آخر للتفسير الموضوعي لم أتعرض له، وهو تتبع المعنى الواحد في طول القرآن وعرضه، وحشده في سياق قريب، ومعالجة كثير من القضايا على هذا الأساس. وقد قدمت نماذج لهذا التفسير في كتابي (المحاور الخمسة للقرآن الكريم) و (نظرات في القرآن) ولا ريب أن الدراسات القرآنية تحتاج إلى هذا النسق الآخر، بل يرى البعض أن المستقبل لها!"[1]
سيرة مصطلح الكفر عند العرب وفي القرآنوالمتأمل في معنى مادة "كفر" في الشعر الجاهلي والمعاجم العربية، يجد معنى هذا المصطلح يدور حول معنى عام واحد تتفرع منه معان وفروع تنتمي كلها إلى الأصل الواحد والشجرة الواحدة، فتجده مثلا يدور حول التغطية فيقال "كفر الشيء وكفّره: غطّاه، يقال: كفر السحاب السماء... وكفر الليل بظلامه، وليل كافر... وكفرت الريح الرّسم، والفلاح الحب، ومنه قيل للزرّاع: الكفار"[2].
والقرآن الكريم استخدم لفظ الكفر وما يشتق منه في معان متعددة تخرج كلها من أصل واحد وتنبت من فرع التغطية، فمن استخدام اللفظ للزارع جريًا على استخدام العرب له، فقد كان يقال للزارع "كافر" لأنه يضع الحب في الأرض ويغطي عليه: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" [الحديد: 20]، ويأتي هذا اللفظ ليعني التبرؤ من شخص أو من عمله ومناصرته، وإلغاء الصلة أو الولاية بينه وبينه، قال تعالى: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [إبراهيم: 22]، ويرد هذا اللفظ ليعبر عن تكفير السيئات.
وصف أهل الكتاب، هل هو على إطلاقه؟والناظر لآيات القرآن الكريم التي تحدثت عن أهل الكتاب، يجد أن القرآن الكريم نعى على أهل الكتاب كفرهم في أكثر من موضع وفي كل موضع يذكر سبب هذا الحكم والمبررات التي ساقها رب العالمين ليحكم على مثل هؤلاء بالكفر وتغيير ما أنزل الله إليهم من حق، وهذا السبب يتفق مع المعنى اللغوي لمصطلح الكفر وهو "تغطية ما كان ظاهرا" فهؤلاء الذين حكم الله عليهم بالكفر من "أهل الكتاب" صدق عليهم هذا الحكم بهذا المعنى؛ لأنهم كانوا يعرفون الحق الذي عندهم، وغطوا عليه ومن الأمثلة على ذلك تغطيتهم وإنكارهم لحكم الرجم في التوراة وتبديل هذا الحكم بحكم آخر ولذلك نزلت آيات القرآن الكريم تنعى عليهم هذا وتحكم عليهم بالكفر وعلى كل من فعل مثلهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } المائدة44، ومن هذه الآيات أيضا ما حكمت على الذين هادوا بالكفر: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء46، فحقت عليهم اللعنة بما بدلوا وغيروا من كلام الله وبما عاندوا حين قالوا سمعنا وعصينا وطعنوا في الدين وهم يعلمون أنه الحق.
كما أن هناك ثلاث آيات، منها آيتان نزلتا تحكمان بالكفر على الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وآية أخرى تحكم بالكفر على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وهذا الحكم يصدق على فئة معينة من خلال ما قررناه من معنى اسم الموصول "الذي" الذي يدل على أقوام بأعينهم ويُـعَـدّى الحكم على غيرهم ممن شابههم في أفعالهم، وهذا الحكم ينطبق أولا على من اخترع هذا القول: إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة، وعلى من تابعهم ممن بلغه كذب ادعائهم، ذلك أنه من الثابت تاريخيا ما حدث في مجمع نيقية سنة 325م الذي اجتمع فيه النصارى ليتشاوروا في أمر عيسى عليه السلام، وكان منهم من قال: إنه عبد الله ورسوله، فاتفق الذين ذهبوا إلى الأقوال الأخرى على تعذيب الذين قالوا إن المسيح هو عبد الله ورسوله وحرمانهم وطردهم[3]، ولقد علق القرآن الكريم على هذا في موضعين بعد أن ذكر قصة عيسى عليه السلام في سورة مريم وفي سورة الزخرف قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} مريم37، وقال أيضا: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }الزخرف65، وهاتان الآيتان تأتيان بعد ما ذكر الله القول الحق في عيسى عليه السلام: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ{34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{36} مريم. {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ{59}... إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{64} الزخرف وهذا يؤيده ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية: (وإذا كان كذلك فنحن نشهد لمن كان مؤمنا بموسى متبعا له أنه مؤمن مسلم مستحق للثواب، وكذلك من كان مؤمنا بالمسيح متبعا له ونشهد لمن قامت عليه الحجة بموسى فلم يتبعه كآل فرعون أنهم من أهل النار، وكذلك من قامت عليه الحجة بالمسيح الذين قال الله فيهم:" قال إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدًا من العالمين" المائدة 115، والذين قال فيهم: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين"[4]، وأما من بعد عهده بالمسيح وبلغته بعض أخباره دون بعض أو بموسى وبلغه أخباره دون بعض فهؤلاء قامت عليهم الحجة بما بلغهم من أخبارهم دون ما لم يبلغهم من أخبارهم وإذا اختلفوا في تأويل بعض التوراة والإنجيل فمن قصد الحق واجتهد في طلبه لم يجب أن يعذب وإن كان مخطئا للحق جاهلا به ضالا عنه كالمجتهد في طلب الحق من أمة محمد، وعلى هذا فإذا قيل إن الحواريين أو بعضهم أو كثيرا من أهل الكتاب أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن المسيح نفسه صلب كانوا مخطئين في ذلك ولم يكن هذا الخطأ مما يقدح في إيمانهم بالمسيح إذا آمنوا بما جاء به ولا يوجب لهم النار فإن الأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح وعندهم أنها مأخوذة عن الأربعة مرقس ولوقا ويوحنا ومتى ولم يكن في الأربعة من شهد صلب المسيح ولا من الحواريين بل ولا في أتباعه من شهد صلبه وإنما الذين شهدوا الصلب طائفة من اليهود فمن الناس من يقول إنهم علموا أن المصلوب غيره وتعمدوا الكذب في أنهم صلبوه وشبه صلبه على من أخبروهم.... وقد ثبت في الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي: "قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"[5] فأخبر أنه مقتهم إلا هؤلاء البقايا، والمقت هو البغض بل أشد البغض؛ ومع هذا فقد أخبر في القرآن أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا فقال: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وقال: "ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى" فدل ذلك على أن المقتضي لعذابهم قائم ولكن شرط العذاب هو بلوغ الرسالة ولهذا قال: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: "ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب". وفي رواية "من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"[6])[7].
فلو تصورنا أن أحدًا من أهل الكتاب لم تصله الحقيقة، أو لم يبلغه الإسلام بلاغًا صحيحًا فلا يؤاخذ إلا بما بلغه من الحق.
القرآن إذن والإسلام لا يحكم على كل أهل الكتاب الكفر لأنهم مخالفون للإسلام فقط بل لأنهم علموا الحق وأنكروه وغطوه، هذا الحق الذي هو مذكور في كتبهم: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ" الزمر 32.
وعلى هذا فإن من كان من أهل الكتاب من اليهود يعلم الحق، ويعلم أحكام التوراة التي أنزلها الله وغير وبدل كما فعلوا أيام رسول الله، ومن كان من النصارى يعلم الحق في الإنجيل ويعلم أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم لم يمتثل لأمر الله فهذا هو الذي يحكم عليه بالكفر لأنه بدل وغير في أوامر الله.
غير أن تعبير القرآن بلفظ "أهل الكتاب" شامل لمن يعرفون كتبهم جيدا ويعرفون الحق الذي جاء فيها، كما يشمل من لا يعرفون من كتابهم الأصلي شيئا، إذ خضعوا لموروثات حضارية وثقافات طمست عليهم الأمور وغيرت من عقيدتهم وأبعدتهم عن الحق، قال تعالى عنهم: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ{78} "[8] وقال عن الأولين " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ{79}"[9] فهؤلاء الذين ضُـلِّلوا من فعل المحرفين نعُدُّهم جاهلين حتى يبلغوا بالحق الذي يقنعهم، فإذا كان القرآن الكريم يحثنا على إسماع المشركين كلام ربهم وتأمينهم بعد سماعهم إلى أن يصلوا لديارهم كما في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }[10] فهؤلاء أولى بهذا الحكم من المشركين ولا ينبغي أن نحكم عليهم إلا بعد أن نوصل لهم كلمة الحق حتى تلزمهم الحجة، ولذلك يقول الله تعالى: "وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ{51} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ{52}" القصص، ذلك أن الحكم بالكفر حكم بالظلم يترتب عليه الحكم بلعنة الله والخلود في النار، فلا بد أن يتأكد من يحكم بذلك أن من حكم عليه قد أبى وجحد ما هو بين واضح عن طريق الجدال بالتي هي أحسن كما أمر بذلك رب العزة، وسيلة واجبة على الدعاة حين قال: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[11] وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[12].
ومن الروايات التي توضح لنا صفات بعض أهل الكتاب ما يلي: روت صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها ما دار بين أبيها وبين أخيه أبي ياسر عند قدوم النبي إلى المدينة: سمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله، قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال:عداوته والله ما بقيت.[13]
وصف المشركين بالكفرإن القرآن الكريم لم يكن لينعى على الكافرين كفرهم لمجرد أنهم عرفوا الحق ولم يتبعوه، بل لأنهم عرفوا الحق وكتموا أنه حق وأخبروا غيرهم بأنه باطل وجاهدوا هذا الحق بكل الوسائل ليصدوا الناس عن هذا الحق ويشوهوه في أعينهم، وإلا فما الضرر الذي يقع على الإسلام من كفر أحدهم وعدم اتباعه للحق.
ومن خلال استعراض صفات بعض المشركين الذين وصفوا بالكفر في القرآن الكريم يتضح لنا أن القرآن وصف هؤلاء بالكفر وصفًا دقيقًا لما كان يعتمل في صدورهم من كتمان للحق ورفض له حتى مع وضوحه أمام أعينهم، وهذا مثال على ذلك: طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك! قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن؟ والله إني لأعلم أنه لصادق قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عن بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى، لا أتبعه أبدا فنزلت: (وختم على سمعه وقلبه......)[14]، ولقي النبي أبا جهل فصافحه فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ فقال والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا[15]، والتقى الأخنس وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمدًا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش[16].
هذه مجرد نماذج لهؤلاء الذين كانوا يعرفون الحق معرفة واضحة، ولكنهم آثروا الكفر المبني على العناد والاستكبار لا عن جهل وعدم معرفة أو شك.
معنى الكفر وعلاقته ببلوغ الدعوةمما سبق أن بينا من معنى الكفر في المعاجم العربية، ومن استعراضنا لصفات الذين وصفوا بالكفر في القرآن الكريم، يتضح لنا جليًا أن المعنى الذي كان يستخدمه العرب للفظ "كفر" هو تغطية شيء كان ظاهرًا وواضحًا، ومما نرى من صفات وسلوك الذين وصفهم القرآن بالكفر نجد أن هؤلاء كانوا يعلمون الحق ويوقنون من قلوبهم أن هذا الدين حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكذب، ولكن لأن هذا الدين مخالف لأهوائهم وشهواتهم المادية والمعنوية فإنهم كانوا ينكرون تصديقهم لهذا الدين، وليتهم وقفوا عند هذا الحد بل وسخروا أموالهم وألسنتهم وأيديهم لصد الناس عن هذا الدين وتعذيب وإيذاء من يقدرون عليه ممن تبع هذا الدين.
ومن كل هذا نخرج بأن معنى الكفر هو أن يبلغ الحقُ شخصًا بكل الأدلة والبراهين الملزمة فلا تبقى له حجة أو شبهة فيسكت عن معارضة هذا الدين ويبهت فلا يستطيع الرد، ثم ينكر بعد هذا صدق هذا الدين، فهذا هو مفهوم الكفر، ولذلك يربط القرآن الكريم في آيات كثيرة بين الحكم بالكفر وبلوغ الدعوة ومعرفة الحق والهدى فيقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 32 ) وجعل الله من الظلم أن يعرف الإنسان الحق ولا يتبعه يقول: (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 86 ) بل ويصف الذين كذبوا الرسل من قبل بنفس الصفة فيقول: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (التغابن:5،6 ) ويقول أيضًا: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (غافر: 22 ) ويقول: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (الزمر: 32 ) ويقولوَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أو كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (العنكبوت: 68) ويصف كفر اليهود فيقول: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89) ويقول: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) (الأنعام: 130) ويقول: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر: 71).
هذا الربط المتكرر في القرآن الكريم يدلنا على حقيقة مهمة، أن القرآن لا يحكم على أحد بالكفر إلا بقدر ما عرف من الحق وأنكر وبقدر ما قامت عليه الحجة ثم أبى أن يؤمن، ثم هو عند هذا الحد ليس عدوًا إلا لنفسه ولا يعاديه المسلمون إلا إذا اعتدى عليهم أو خان عهده معهم أو آذاهم، وبهذا المفهوم ينبغي ألا يفهم أن القرآن يحكم على كل من يخالف الإسلام بالكفر بل مناط الحكم بالكفر هو بلوغ الدعوة والحق بلاغًا واضحًا ثم رفض الإيمان والتصديق دون شبهة أو حجة، فهذا هو الكافر الذي حكم عليه القرآن الكريم بالعذاب الأليم في آيات عدة (وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 104) ولقد نفى الله سبحانه وتعالى العذاب عن من لم تبلغه الدعوة فقال تعالى: (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) فبين سبحانه وتعالى أنه عادل لا يظلم أحدا فلا يحمل نفسا وزر أخرى ولا يعذب من لا تبلغه الدعوة ويقول أيضًا: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) (الأنعام: 131) (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: 59).
أجل: إن الله الهادي، الله النور، الله المقسط، لا يدع عباده حيارى من غير بيان يبصرون به مواقع أقدامهم وأمل صادق يبعث الحياة في مستقبلهم ويملأ بالنشاط يومهم؛ ولذلك أرسل أنبياءه لهم، وأقام في كل أمة من يشق لها الحجب، ويبعث في أفئدتها الضياء (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24) وربما لا نعرف أسماء أولئك الدعاة الذين سيشهدون على الناس يوم الحساب غير أننا نوقن بأن الله لا يناقش الحساب أحدًا يجهل أصل الرسالة وفحوى الدعوة لأن عذره قائم (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) والكفر الحقيقي في نظرنا جحد الحق بعد ما اتضح للبصيرة جوهره، وتألق أمامه إشعاعه، ومن ثم فالهمّـل الذين لم تبلغهم دعوة الحق بأسلوب يحمل في طياته دواعي قبوله، يسمون كفارًا على المجاز، وإلا فهم جهال فحسب.. وقد كان الأنبياء ومن خلفهم على رسالاتهم نماذج جيدة في التحدث عن الله بألسنتهم، وكانوا قبل ذلك وبعده نماذج أجود في جذب الناس إلى الله بطيب أنفسهم، ونقاء معدنهم، وصفاء حيرتهم، ووصولهم في مدارج الكمال الإنساني إلى ذروة تزرع الإعجاب في القلوب وتذر الأتباع عشاقا لشمائلهم"[17].
يقول صاحب المنار: "وقال شيخنا: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة [بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) بلاغًا صحيحًا وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادًا أو تساهلاً أو استهزاءً نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن]" [18].
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: "بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:
صنف: لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاُ فهم معذورون.
وصنف: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.
وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضا منذ الصبا أن كذابا ملبسا اسمه محمد ادعى النبوة... فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر... وأما من سائر الأمم فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة... فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه وتولى ولم ينظر فيه ولم يتأمل ولم يبادر إلى التصديق فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين" [19].
يقول الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– بعد أن قسم الناس إلى ثلاثة أقسـام، مؤمن وكافر وجاهل: ".. والكافر هو الذي عرضت عليه هذه الحقيقة عرضًا لا يشوبه لبس ولا يخالطه تحريف ولا تشويه، فعقلها كما جاءت من عند الله، ومع ذلك آثر جحدها، واختار إنكارها، ورفض الإذعان لها، مع استطاعته أن يهدي قلبه، ويرضي ربه، فذلك كافر نجزم بأنه هالك بائر، ((ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبـط أعمالهم)) محمد 28.... أما الجاهل فهو رجل لم تبلغ دعوة الحق مسامعه ليستجيب لها أو يرتد عنها، فهو يعيش حسـب ما قيض له من أفكار، أو ما ارتبط به من وراثات ونحن إذا تأملنا في هذا الصنف من الناس نجدهم أقساما شتى بين رعاع وخاصة، وبين أذكياء وهمل وبين كتابيين ووثنيين.. إلخ، وإصدار حكم جامع أو إيضاح مصير مشترك يضم أولئك جميعًا أمر عسير... ومن ثم قلنا: إن هؤلاء الذين لم توقظهم من غفواتهم النفسية والعقلية دعوة الإسلام لا يعدون كفارًا بها، كيف وهم لم يوصل لهم القول، كي يدخلوا في نطاق الآية {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} (القصص51) وأغلب الظن أن وزر هؤلاء يقع على الأمة الإسلامية، الأمة التي فرطت في رسالتها وتنكرت لمواريثها، وحرمت العالم من النور الذي شرفها الله به، انظر إلى قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)[20] هذه الآية تبين حكم الله فيمن يجهل دينه. فإنه لما احتدم النزاع بين الإسلام الواضح الوفي المسالم، وبين ناكثي العهود وبغاة السوء من خصومه المتربصين به، وشاء الله عز وجل أن ينزل هؤلاء على قواعد الأدب الصارم، وأن يلغي المعاهدات التي طالما عبثوا بها.. لم يجعل العقاب يتناول الجميع، فمنهم خالو الذهن من العوام، ومن المخدوعين المغرر بهم، أو الجهال حقيقة الدعوة وإن بلغهم شيء عنها، الواحد من هؤلاء يجب أن يسمع كلام الله كما نزل من عنده، دون تحريف ولا تزيد ولا نقص، فإذا وعاه لم نكلفه فورًا بالإيمان، بل يجب أن نوصله إلى المكان الذي يملك فيه جأشه، ويطمئن فيه على نفسه وحرماته، ويبني حكمه على ما يعرض عليه وهو في حرية وعافية.. ذلك أن هذا وأمثاله معذورون في بعدهم عن الإسلام {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}، فإن آمن بعد هذه الفرص المتاحة، فهو منا، وإن كفر واعتزل تركناه، وإن كفر واعتدى قاتلناه. إننا لا نشتري خصومة من يجهلنا، ولا نعتبر علينا من ينأى بكفره عنا "[21].
والحقيقة أن مصطلح الكفر كان أكثر اتضاحًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده في زمن صحابته الكرام، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته قاموا بدعوة الناس إلى الله بكل الوسائل وتركوا دين الله أمام أعين الناس أوضح من نور الشمس، فكانوا نماذج عملية لما يتكلمون به، فكان هذا الدين واضحًا أمام كل الناس بكل ما يحتاجونه من أدلة وبراهين، ولم يكن لأحد عذر في الإعراض عن هذا الدين إلا الكفر الناتج عن الاستكبار والحسد وإنكار الشمس في رابعة النهار، وليس ذلك الناتج عن الجهل، وما بدأ هذا المصطلح يصبح مضطرب المعنى في أذهان المسلمين، إلا عندما ضعف المسلمون في تطبيق دين الله على أنفسهم، وبالتالي -ولأن فاقد الشيء لا يعطيه– لم يستطيعوا أن يبلغوا دين الله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وبقدر بعدهم عن هذا الدين بقدر بعدهم عن المفاهيم الصحيحة التي جاء بها هذا الدين ومنها مفهوم الكفر.
باحث ومترجم وإمام وخطيب
<A id=01 name=01>[1] الغزالي، محمد، نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم، صـ 3، القاهرة، بيروت، دار الشروق، 2000م، 1420هـ.
[2] جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، الطبعة الثالثة 1985م، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج2 مادة كفر.
[3] يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، دراسة مقارنة للمسيحية، دكتور رؤوف شلبي،ص 215
[4] سورة آل عمران آيات 55،56، 57
[5] رواه مسلم
[6] رواه الشيخان
[7] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، 4 أجزاء، قدم له وأشرف على طباعته علي السيد صبح المدني، المؤسسة السعودية، القاهرة، 1964، الجزء الأول، صـ 312، وما بعدها.
[8] سورة البقرة آية 78
[9] سورة البقرة آية 79
[10] سورة التوبة آية 6
[11] سورة النحل آية 125
[12] سورة العنكبوت آية 46
[13] البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 212.
[14] تفسير القرطبي جـ 16، صـ 170، دار الشعب، القاهرة.
[15] تفسير ابن كثير ج:2 ص:130
[16] تفسير ابن كثير ج:2 ص:131
[17] محمد الغزالي، نظرات في القرآن، ص 75.
[18] تفسير المنار – الجزء الأول – صــ 140 مطبعة المنار
[19] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة / أبو حامد الغزالي /تحقيق الدكتور / سليمان دنيا 1961 ص 96 97.
[20] التوبة : 6
[21] انظر: مع الله، دراسات في الدعوة والدعاة، ص 62 – 65 دار الكتب الإسلامية - القاهرة
*أصل الموضوع رسالة للماجستير حصل عليها الباحث من كلية اللغات والترجمة، قسم اللغة الألمانية، شعبة الدراسات الإسلامية بعنوان: مصطلح الكفر معانيه وإطلاقاته دراسة تحليلية من خلال نصوص القرآن الكريم - بتاريخ 16 أبريل 2007